هل تؤثّر نوعيَّة القراءة في الإنتاج الأدبي؟

ثقافة 2023/03/26
...

  علي لفتة سعيد


لا شيء لا يحتاج الى قراءة؛ ولذا فإنَّ الذي لا يقرأ يطلقون عليه أميًّا، لا يفهم شيئا من الحياة.. ولأن القراءة هي النسغ الأهم للمنتج الثقافي وهي المفعول الأول الذي يمنح طريقة لاكتشاف الموهبة، ومن خلالها يمكن معرفة المنسوب الثقافي، والسلوك، والاهتمام، والوعي. فمن دون القراءة تكون الآراء مثلا متحجّرة ومصابة بالضعف والهزال وربما تؤدي الى التعصب والانقياد لهذا الرأي أو ذاك، لأن غير القارئ يعتمد على مقولات آخرين تسيّره حيث يشاء. ولهذا فإن فعل القراءة هو الأهم في مسيرة الأديب كي يكون نتاجه مبنيا على ما تم تخزينه من أدوات الانتاج. لذا فالسؤال.. هل القراءة المتنوعة هي المفيدة للأديب؟ أم القراءة المتخصصة التي تفيد نتاجه الأدبي؟ وهل تثير القراءة الإنتاج ليكون مبدعا أو ضعيفا؟


توحّد المدخلات

الناقد العراقي الدكتور جبّار ماجد البهادلي يقول إن: من المسلَّمات الفعلية لأبجديات آليّات القراءة الواعية، وجماليات التلقّي القِرائي النابه، أنّ مفهوم القراءة الإدراكية الفاحصة في حدِّ ذاتها، هي فعلٌ حقيقي واعٍ بمدركات الحدث النصّي القرائي، وهي مثير لردِّ فعلٍ طبيعي عادي، أو قصدي إنتاجي اسمه الكتابة الإبداعية الناتجة عن أثر كيمياء عملية التفاعل والتلقّي القرائي. وأضاف أن التأكيد والتسليم لما قالهُ النفّري بعبارته السياقية الشهيرة :(كلّما اتّسعتِ الرؤيةُ ضاقتِ العِبارةُ)، أيّ كلّما اتّسعت آفاق الكتابة وصفحات التلقّي الواعي، ضاقت سُبُلُ الكتابة النوعية، وَأُحكِمت مسالكها الموضوعية والفنيّة جودةً وتقويما، وعلى وفق ذلك المعيار الذهني للتلقّي الفعلي المنشود يرى البهادلي إنّ القراءة التخصصية الدقيقة لأي جنس قرائي من أجناس الكتابة الإبداعية، هي مُوئِل الفكر ومصدر فلسفة الإبداع الفنّي. وهيَ في الوقت ذاته العصب الحسّي الملموس بصريّاً ورؤيويّاً عبر فِعليات الفواعل الذاتية التي تفرزها أسلوبيَّة التعبير الفنّي للقارئ المتلقّي (الكاتب)، نتيجةً لملكة استعداده الفطري وحصيلة مثابرة اكتسابه المعرفي (الابستمولوجي). وهي قاعدة توحّد المدخلات الذهنية والمخرجات الحسيّة للتلقّي. ومن ثم فإنَّ القراءة التخصصية المكينة لأي ثقافة ما، مادية أو معنوية لا تُضعف المتلقّي، بل هي التي تُثري أفانين الإبداع الفعلي بالتخصّص الدقيق للكتابة، وهي التي تُمسكُ بتلابيب أذيال واقعة الحدث الموضوعيّة، وتوسّع من عمق خطوط مِساحاتِ فضاءات حريّة التعبير الفكري للكاتب المتلقّي. 

 ومثل هذا التسليم التوصيفي لمفهوم القراءة التخصصيّة. الذي له أهميته المعرفيّة في إثراء الفعل الإبداعي للكاتب وتنمية شُعبِ آفاقه عوالمه الإنتاجية المتعدّدة يضعنا نقدياً وفلسفياً أمام حقيقة السؤال التالي: هل إنّ القراءة التخصّصيّة البحتة لثقافة من ثقافات التخصّص المعرفي الإنساني تُلغي دورَ القراءة التنوعية الشمولية المتعدّدة، وتُضعفُ من رصانة وسطوة تنوّعها الواسع المتين؟  

   لا شكّ أنّ القراءة المتنوّعة، هي ثقافة كليّة موسوعية شاملة لا جزئية تخصصية محدّدة، وإنّما هي الأخذ من كلّ علمٍ بطرفٍ، أو الأخذ من كلّ حديقة زهرةٍ؛ من أجل صناعة إنتاجية تخليقيةٍ تكامليةٍ واسعةٍ. قد تذهب بالقارئ الناقد أو الكاتب الواعد بعيداً عن خاصيّة التخصّص الحقلي الدقيق إلى منطقة العموم الجمعي وفقاً لمفهوم أنّ الجزء التخصّصي ينتمي إلى الكل التكاملي التنوّعي، ولا يتعارض مع أنساقه الخفيّة والمتجليّة، والحقيقة المعرفيّة لجماليات التلقّي الفكري الذاتي. ويضيف أنّ القراءة الاختصاصية ذات الطابع النوعي المُحدّد بثقافة مادةٍ فكريةٍ أو إنسانية معيّنة ما لا تُلغي دور القراءة التنوعيّة في عملية التلقي الذهني في الزاد المعرفي، بل هيَ تنظيم وإسناد وتعضيد وتأكيد لمسارات القراءة التنوعية الرصينة، واستئناس معرفي ثرّ مباشر يُضاف إلى رصيد مكنونات أدواتها اللغوية وبنيتها الأسلوبية التركيبية في شتى المجالات الإبداعية والفنيّة والجماليّة التي تُثري الخطاب النصّي بكلّ ما هو جديد نافع. 


مرآة عاكسة

الأكاديمي والأديب الجزائري عزالدين جلاوجي يقول إن: القراءة عملية عقلية معقدة، بقدر ما تحتاج إلى مستوى من المعرفة، تحتاج إلى مستوى كبير من الوعي، ومع الانفجار المعرفي الرهيب صارت القراءة إكسير الحياة، وصار القارئ والمتلقي محور المعرفة الأساس في كل العلوم والفنون، ولا شك أن الآداب ومنها الشعر والرواية من أبرز الفنون التي مازال لها التأثير القوي في حياة الناس، سواء بتلقيها مباشرة أو عبر وسائط، كالأغنية مثلا، ولأننا في واقعنا العربي عجزنا عن أن نجعل القراءة هاجسنا المركزي والأساسي، راحت فنون قولية كبرى تندحر من المشهد القرائي، وعلى رأس ذلك كله الشعر، ولعل السبب فيه، فهو الذي حمل بذور عزلته وانكماشه. 

وقد راح يوغل في التغريب والإبهام، ويشرنق نفسه بطلاسم لا قبل لإنسان اليوم بفك شفراتها، وهو الممزق بين أعباء الحياة الكثيرة، ومنه فقد ظل الشعر حكرا على نخبة النخبة، بما جنى على نفسه، في حين راحت الرواية تمتد لتكسب إليها ملايين القراء، الذي صار كثير منهم كتابا لها أيضا. ويضيف: وما ذلك إلا بما تتوفر عليه من قدرة عجيبة على التعبير عن الإنسان وعن كل عوالمه، وبما وفرته لنفسها من آليات تبسط عملية التلقي، أو على الأقل تراعي كل مستويات القراءة، وهي بهذه القدرات السحرية امتصت كل الأجناس الأدبية ومنها الشعر ذاته الذي سبقها في الظهور، وامتصت كل العلوم والفنون، ومنها الموسيقى والفنون التشكيلية، ومازالت تخترق آفاقا جديدة وترتاد جزرا مجهولة لا ندري إلى أين تمضي بها، وعبرت عن الإنسان في كل حالاته، فانطلقت منه، من أعماق ذاته، ومن تراثه وتاريخه، وحلقت به في عوالم الخيال والأسطورة والعجائبية، كل ذلك جعل إنسان اليوم يركن إلى هذا الفن ويعشقه، ويتخذه مرآة عاكسة له، ومطية تحمل آماله وآلامه، همومه وطموحاته، ومازال أمام الزمن متسع من الوقت ليحتفي بها أكثر، وليجعل منها ديوانه الأول، بعد أن راحت كثير من الفنون تندحر في معركة البقاء، أو تكاد ومنها الشعر والمسرح أيضا، إلا إذا توفرت وصفات سحرية تحقن هذه الفنون بروح البقاء والاستمرار.      


مرتكز الثقافة

الروائية المصرية علياء هيكل تقول إن: القراءة من المؤثرات القوية في تشكيل الهوية الفكرية للفرد وفاعل قوي في اكتشاف منابع المعرفة وسبر أغوارها.. ومن ثم تشكيل توجهه ورسم أفكاره على أسس متينة، وهذا بالطبع يتوقف على نوعية ما يقرؤه الإنسان والذي يؤثر بشكل كبير على ميوله واتجاهاته وأفكاره. أما عن المبدع والقراءة، فترى أنه مما لا شك فيه أنها من أهم ارتكازاته الثقافية، وفي رأيي أن تنوع قراءاته واطلاعاته على جميع المجالات المعرفية، يفيده بشكل كبير ومؤثر في عمله الأدبي،  فالأديب أو الكاتب حين يؤلف رواية أو عمل أدبي لا بدَّ له أن يكون على قدر كافٍ من المعرفة في مختلف المجالات حتى لو اعتبرناها معرفة غير متعمّقة كالمتخصص، وهذا يمكنه من تشكيل شخصيات أبطال العمل باحترافيّة وخلق عالمه الروائي على قاعدة من الحقائق والتي من شأنها جعل العمل متيناً من الناحية الروائية، مما يمنح للكاتب مصداقية وثقة لدى القارئ..

وتضيف أن: القراءة من ناحية أخرى تساعد الكاتب على أخذ مساحة منفصلة له لتخفيف التوتر الناتج أحياناً من استغراقه في الكتابة لفترات طويلة، فيشعره ذلك بالكثير من الراحة والهدوء ويمكنه من استعادة تركيزه ونشاطه، من ناحية أخرى فإنها تثري الحصيلة اللغوية وتنمي المهارات الكتابية لدى الكتاب المبتدئين، علاوة على تنمية مهارات التفكير التحليلي والمنطقي.. وتلك كلها عوامل مهمة لتطوير الكاتب واتساع حصيلته المعرفية، مما يؤثر بالأخير على نتاجه المعرفي والأدبي. من ناحية أخرى ينبغي على الكاتب أو الروائي أن يقرأ في مجالات بعينها كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والطب، والتاريخ، والأديان، وتاريخها.. إذ إن العالم الروائي هو عالم آخر موازٍ لعالمنا الواقعي، وعليه فهو عالم له طبيعة وشكل ومعايشات مماثلة إلى حد كبير للواقع بشخوصه وظروفه المختلفة، ومعرفة الروائي بكل ما يتطلبه خلق عالمه الروائي من علوم ومعارف والذي يترتب ويعتمد بشكل كبير على خلفية الروائي المعرفية والثقافية ومدى اطلاعه على تلك العلوم والثقافات المختلفة إلى جانب خبراته الحياتية، وبذلك في رأيي أن التنوع المعرفي للأديب يجعله منفتح الرؤى راسخاً في معارفه على عكس تخصصه في قراءات بعينها مما يجعله محدود الرؤية.. وتعتقد أن القراءة بشكل عام من أجمل المتع الفكرية، هي عالم آخر نهرب إليه، نعيش فيه مع الكلمات بين ضفتي كتاب، القراءة هي فعل عقلي ماتع، محبب للعقل الواعي المقبل والمتطلع بشغف للمعرفة.. هي حوارات دائمة متصلة مع أصحاب الكلمة، مع من كتبوا ليشكلوا بكتاباتهم عوالم عديدة متسعة من المعرفة.. 


روافد الإبداع

الأديب السوري منذر يحيى عيسى يطرح سؤالا: هل يمكننا القول إنَّ الكتابة هي عملية أو محاولة لترجمة أو توظيف الأحلام! والتي هي المواد الخام، وعند لحظة الدخول في المغامرة الكتابيّة قد تفصلنا عن الشعور المباشر وتقود إلى حالة غير محدودة، والسؤال هل يكون الشاعر أو القاص والمبدع بشكل عام أحد أبطال ما يكتب! وهل أن قراءاته السابقة ومخزونه الفكري تترك بصمتها؟ ويجب أن الأحلام كما وصفها أريك فروم: هي تلبية خيالية للرغبات اللامعقولة والمرتبطة بنا بالأصل منذ الطفولة الأولى. من تجربتي الشخصية في الكتابة، كنت أرى أن بإمكان كفي أن تمتد إلى أية غيمة لأجني ما أشاء من ماءٍ أسكبه في صحراء الوقت لتنبت الأزهار، أو أرسم وجهاً جميلاً لمن أهوى، وكان القلب يتمايل في عرشه كملك انتشى بخمرة الانتصار، عندما كانت العين تلمح وجهاً أو عندما تحرك الريح خصلات شعر كحقل قمح امتص من صفرة الشمس ما شاء، أو سرق من الليل السواد كلّه. ويضيف: كنت أشعر عند تنفس الهواء، في بدء قيامة الأرض بعد شتاء كنت أراه دهراً، أشعر أن لجسدي أكثر من جناح، ولا جاذبية للأرض، وتتوهج الرغبة، وكنت بأحلامٍ لا حدود لها أتخطى مرارة الوقت، أمنح من أشاء عسلاً من عصير الكلمات التي أوسدها بياض أوراقي حباً لا حدود له ولا انتهاء. ذلك كلّه من مخزون قراءاتي المتنوعة والمتعددة المصادر.. والخلاصة الأكيدة هي أننا ما نكتب وما نحلم، وتلعب قراءاتنا المـتنوعة دوراً مؤكداً في ما نبدعه أو نكتبه مثال ذلك تصوير (أمرئ القيس) لليل في قصيدته المشهورة وتشابيهه “الطول-الظلام- أمواج البحر- التنقل- الهموم” نلاحظ انها ألقت بظلالها عليَّ وعلى الشعراء وعلى ليلهم بكل الآثار التي يتركها في مشاعرهم. وبحسب رأي النّقاد أن أعظم المبدعين قد تأثر إبداعهم بمن سبقهم، حيث رأى “لانسون” الفرنسي أن أعظم الكتّاب أصالة؛ من تكاثرت عنده هذه الرواسب الفكرية

المتنوعة. ويؤكد أهمية القراءة وسعة الاطلاع على الإبداعات المختلفة. كما يقول “رولان بارت” إنّ فصل النص عن ماضيه ومستقبله يجعله نصّاً عقيماً لا خصوبة فيه، أي أنه نصٌّ بلا ظلال ويمكنني هنا طرح سؤال: هل يمكن اعتبار أن الإنتاج الأدبي يعتمد على استعادة إبداعات سابقة؟

 ويعتقد أن الأمر مؤكد. إذ إن الاطلاع على التراث والأسطورة والكتب المقدسة وقراءتها يمكن أن يشكل رافداً للإبداع باللجوء إلى التضمين والاقتباس والتناص والتحوير قد يسهم في عملية تخصيب النص وتحميله بالرموز والإشارات.

لا يكفي أن تكون قراءتك كمبدع في مجال إبداعك، ولا بدّ من الاطلاع على جميع مجالات الإبداع المختلفة، فقد تشكل الرواية مجالاً لتدعيم نص شعري وخصوصاً في مجال الشعر الحديث وكذلك العلوم المختلفة الفلسفية والأسطورة، وحتى العلوم التجريبية.

أقول أخيراً إن المبدع الثرّ والمميز هو المبدع الأكثر اطلاعاً وقراءة، والأقدر على حملنا على أجنحة إبداعه إلى سموات عذاب.


صقل المواهب

الأديب العراقي فاهم وارد العفريت يرى أن الثقافة وبكل صنوفها لعبت ومنذ وقت بعيد على صقل المواهب للمبتدئين وزيادة الخبرات للمحترفين، وذلك لديمومة العمل الأدبي كتابة من خلال القراءات العديدة والمتنوعة، لأنها تمنح الأديب مختلف المعلومات التي تكون في الكثير من الأحيان أدوات مفيدة ومتميزة لتوظيفها في اعماله الأدبية، لأنه سيمتلك عند ذلك خزين من المفردات التي حصل عليها من خلال القراءة المستمرة لمختلف الكتب والصحف والمجلات.  

ويقول إن: التواصل الدائم مع الفعاليات الأدبية والثقافية والفنية من خلال الحضور الدائم للأماسي الأدبية والمهرجانات الثقافية وكذلك المعارض الفنية والعروض المسرحية ومشاهدة الأفلام السينمائية، كل ذلك سيمنح الاديب حتما أفقا واسعا للاطلاع على تجارب الغير وطريقة تناولهم لتلك الكتابات أو الأعمال الأخرى المختلفة، وهذا بحد ذاته سيكوّن للأديب خزينا معلوماتيا كبيرا سيمكنه من التطريز المتميز بخيوط الكلمات أثناء تناوله لعمل أدبي إن كان شعرا أو نثراً، لأنه امتلك بمتابعاته وحرصه على التواصل مع المحيط الثقافي على أبجديات تتفاعل بعدة مدلولات حتى تتوهج في مشغله الكتابي عناصر البناء المفعمة بهذا الكم الكبير من العوالم التي حصل عليها من خلال تطوافه الدائم مع تلك الفعاليات بقراءة مختلف الكتب بموضوعاتها المنوعة، والاطلاع المستمر على مختلف الصحف وكذلك المجلات وخاصة الثقافية والأدبية، لأنها ستمنحه ايديولوجيا يستطيع من خلالها تفكيك الواقع بأفكاره أو معتقداته واتجاهاته ويستطيع كذلك معرفة انماط السلوك المنوّع وأساسياته للفعل الواقعي المستمد من القراءة الذاتية مرة، ومن فعل الكتابة واشتراطاتها مرة أخرى أو من خلال التفسير، أو التأويل الفلسفي لمجمل تلك الفعاليات. 

ويتابع: اذاً ومن خلال وجهة النظر هذه نستطيع ان نؤشر وإن كان بسبابة مرتعشة. ويقول إن: هذه الفرضية تتحول من خلال السياق الكلامي واحتمالاته الى عدة أسئلة لتوظيف تلك المقاربات وربما الاشتغالات الموحية للكثير من علامات الاستفهام الخاضعة لمقاييس الواقع وما يحمله من بعد سيكولوجيي أو اغتراب بين القارئ وبين الاديب أو بين الأديب نفسه وبين ما تحمله اعماله او الكتب التي اراد لها ان تمنحه فيضا دافقا من الابجديات المورقة بالحروف والكلمات في فضاءات أعماله الأدبية والثقافية. لذا نرى وبوضوح تام انه وكلما غاص الأديب بعيدا في أعماق القراءات والاطلاع المستمر لمختلف الفعاليات كلما كانت حصيلته كبيرة من الرؤى والأفكار المحملة بمختلف الصور والمعاني المكانية والزمانية والدلالية التي تتناغم مع فعل الكتابة لإعادة ما عبأته الصور المختلفة من خلال ممارسة فعل القراءة المتعددة

والمتنوعة.


حياة ثانية

الشاعر المغربي حميد يعقوب، يقول: لقد كانت القراءة أوّل الأوامر الربانية في قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق...) وهذه إشارة ندرك بواسطتها أهمية القراءة في حياتنا، بل وهي حياة ثانية نعيشها كغذاء للروح والعقل. هذا الأخير الذي يصاب بالجمود إذا ما توقفنا عنها، وصار أمر التعبير الشفهي أو الكتابي أمرا عسيرا.

وهنا يعنينا بالخصوص الكاتب، لأنّه القادر التعمّق في مشاعره وفهم مشاعر مجتمعه من خلال معرفة شخصيات وتجارب مختلفة، فالقراءة تساعده على الانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي لا ينفصل عن النفسي وكذلك السياسي، وتحسين أسلوبه التفاعلي مع الغير وفهم ثقافات العالم، فهي تساعده على تحسين مفرداته اللغوية وتنمية مهاراته الفكرية والكتابية، وحتى يصل إلى أكبر عدد من القراء، فهو مطالب بتنويع مصادر أفكاره ولغته، عليه أن يطلع على كتب الاجتماع والفلسفة والتاريخ والأدب الجاهلي والمعاصر، وأيضا الدراسات النقدية بكل مدارسها حتى يكون عبارة عن موسوعة أدبية له كل موارد الكتابة التي تخاطب كل أنواع الجمهور القارئ، وتنويع القراءة بالنسبة له تعني  تطوير أسلوبه الذي يجب أن يساير التغيرات الفكرية والاجتماعية، فالأسلوب يعد عاملا أساسيا وفقه يعلق القارئ بشباك المنتوج الأدبي، فالكاتب لا يمتلك سوى المفردات والتراكيب التي يوظفها الناس للتعبير عن حاجاتهم الثقافية والبديهية، ويجب أن يكون قريبا من هذه التغيرات عبر الاهتمام الشديد بالقراءة المتنوعة، كونها المؤثرة في النص أو  إنتاج الكاتب وتوجيه إبداعاته، وهو ما صار يطلق عليه بسيكولوجية القراءة، لمعرفة الكيفيات التي يتلقى بها القارئ المنتوج الأدبي عموما.. فكلما تعددت الروافد القرائية، تعددت مواضيع الكاتب للكتابة، وارتقى الأسلوب ليكون أقرب للمتلقي..  لكننا وبحسب قوله نجد بعض الكتاب الذين يتخصصون في مواضيعهم، ما يجعل أسلوب التعبير ضيقا غير منفتح على باقي الأساليب، وهم بذلك يوجهون كتاباتهم لطبقة معينة، تميل أكثر لاختصاصاتهم الأدبية أو السياسية أو الفلسفية وكذا الاجتماعية، ومن هنا ظهرت فكرة التفريع للكتاب، بحيث يوضع كل كاتب في اتجاهاته الأدبية، كأدباء القضايا الوطنية الملتزمة، وأدباء الحكام والقصور، وأدباء الموالاة أو المعارضة، أدباء الرومانسية وأدباء الدين وغيرهم.. هؤلاء تكون مواردهم القرائية محصورة وغير منفتحة على الثقافات الأخرى المتنوعة، بل وحتى أسلوب الكتابة لديهم ملتزم وضيق، وجمهورهم معدود.