مكتبات سوريا على فراش الموت

ثقافة 2023/03/26
...

  ريم حبيب 


هو التضاد بين الأشياء الذي لا يمكن التوسط بينها، لذا إما أن تكون موجودة وإما غير موجودة، فالموجب والسالب كما قال أنجلز يتنابذان تماماً، والسبب والنتيجة يقف كل منهما للآخر في حالة تناقض صارم. وهذا ما يفسر بأن الثقافة في الظروف المتقهقرة التي تمر بها المجتمعات وفي فوضى المتغيرات التي لا تعد ولا تحصى هي أول من يتراجع وآخر من يتعافى. عندما كنا نردد أسماء المكتبات الموجودة في البلد كنا نقولها بحميمة مثلما نردد أسماء أهلنا وأحبابنا وأصدقاءنا فنحسبها ضمن تعدادنا السكاني لهذا كنا نتلقى خبر إغلاقها بحزن من يشيّع أهله وأحبابه وأصدقاءه.


شعور بالفقد ينتابك لا ريب حول مصير المكتبات التي تتخذ قرارها بإغلاق أبوابها إلى الأبد. 

فالمكتبات أيضاً ترحل عن أوطانها لأنها تجد نفسها في المكان الخاطئ بلا عمل وبلا مردود وأمام تحديات كثيرة ما يعد خطورة تنبئ بانهيارات مجتمعيّة وثقافيّة. 

في مراجعة غير رسمية لعدد المكتبات التي أغلقت خلال الحرب تبين أن هناك عدد كبير منها، فالمسألة ليست بسيطة مثلما يمكن أن نظن على أصحابها، فالمهنة صعبة وتحتاج لمجهودات مضاعفة للاستمرار. 

إذ إن إدارة المكتبات تحولت في كل دول العالم إلى مهنة مستقلة كلياً: فهناك الكثير من المكتبات ابتكر أصحابها أفكاراً طوروها في طرق شتى لم تناسب البعض الآخر وما يجري في دمشق يجري في كل محافظات سوريا. 

حيث غادرتنا في الأشهر الأخيرة مكتبة ميسلون ونوبل ومكتبة الزهراء، وعالم المعرفة في دمشق وآخرها مكتبة كردية في اللاذقية والواقع ينذر باندثار العديد من المكتبات التي تنتظر أن تعلن لحظة موتها.

لكن ما يحدث في سوريا ليس حكاية خاصة، يبدو أن الحال من بعضه في معظم الدول العربية وأن دراسة الأسباب المختلفة التي تؤدي إلى تراجع دور المكتبات ودور النشر والتعامل معها يعيدنا مرة أخرى إلى موضوع الجدل ويبقى الوفاء للثقافة والاستمرار رغم كل ما يعترض العاملين في الشأن الثقافي تعاملاً نسبياً. 

عندما سألت الأستاذ ماهر بدر وهو صاحب مكتبة بالميرا وهي مكتبة كبيرة وعريقة في محافظة اللاذقية عن التدابير التي يمكن أن تتخذ قبل لحظة إعلان قرار إغلاق المكتبات وعن الأسباب التي تسرع تلك اللحظة، فقال: يبدو كل الأسباب مجتمعة بدءاً من الظروف المادية والتناول السلبي في الحديث عن الكتاب وعن المثقفين، وربما غياب حركة النقد والإضاءة على الكتب المهمة إلى احتشاد الوسط الثقافي بأنصاف مثقفين ونتاج أدبي لا يمكن تسميته إلا بالهراء المطلق. وأخيراً الدعاية السلبية التي ترافق قرار الإغلاق إن كان على وسائل التواصل الاجتماعي أو في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى.

وأوضح بدر أن وضع رغيف الخبز في مقارنة دائمة مع كتاب يقرأ هو أمر ظالم وطرح مثل تلك المقارنات في الأولوية يخلق عدائية مجتمعية نابعة من الظروف الاقتصادية للأفراد وفي الوقت نفسه لا بدَّ لرغيف الخبز أن ينتصر من دون أن نعي بأنَّ الجهل يقتل مثلما يفعل الجوع إلا أن تتحسن الظروف المادية مرة أخرى لحل تلك العداوة.

وعلى الرغم من ذلك مازال أصحاب المكتبات لديهم أمل كبير في دور الكتاب والعودة في القريب العاجل ممكنة وفي حركة تصاعديّة والتاريخ يشهد أن الكثير من المكتبات كانت قد اتخذت قرارها بالإغلاق ومن ثم تراجعت وعادت إلى المشهد الثقافي انطلاقاً من نظرة تفاؤليّة حيث مازال الكتاب في الدول المتقدمة موجود لذا فالأمل موجود 

أيضاً.

رغم جميع أشكال المصادفة الظاهرة وكل أشكال التراجع المؤقت في هذا التغير الذي يشهده المشهد الثقافي فإنَّ ثمة أملاً سيتحقق في النهاية ودور المكتبات لا يلغى، بل يتلاشى إلى أن يعاد إنتاج عوامل اجتماعية جديدة مرتبطة بتطور الوعي الفردي والمجتمعي إذ إن الوعي المجتمعي كان وسيبقى هو من يحدد وجودنا.

إذاً لمن عسانا نكتب كل تلك التقارير ونوثق كل تلك الأوجاع؟

 قد يخطر هذا السؤال في بال الكثيرين على نحو مفاجئ! من أجل المستقبل، من أجل الذين لم يولدوا بعد. 

يشرد ذهني لحظة في المستقبل غير المؤكد، مثل صدمة بدت تلك الكلمة (المستقبل) وللمرة الأولى أدرك خطورة تلك الكلمة، فكيف لنا أن نتخيل المستقبل؟

إنه أمر مستحيل في حد ذاته انطلاقاً من عدمية الواقع المعاش ووفقاً لذلك يتبدل السؤال ليصبح: كيف سيغدو المستقبل؟

 هل سيكون شبيهاً بالحاضر؟

في تلك الحالة لن ينفع كل ما سنقوله، أو أن يكون أسوأ فتصبح كل مشقة نبذلها عديمة المعنى أو يكون مشرقاً وثاباً فلا يضيع مجهود كل من أسهم في تحريك المياه الراكدة ولو بكلمة انطلاقاً من أن التغيرات الاجتماعية العظيمة مستحيلة من دون الثورة على كل واقع مرفوض ولو  بكلمة.