معنيُّون يناقشون المستوى الثقافي في الدراما العراقيَّة

ثقافة 2023/03/27
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي   

ما زالت الدراما العراقيَّة تواجه تساؤلات كثيرة، تخص المستوى الثقافي لموضوعاتها وأساليبها الإخراجيَّة وقدراتها الإنتاجيَّة وإمكانياتها التمثيليَّة، فهي على مدى سنوات كثيرة مرت، لم تستطع الإيفاء بحاجة المشاهد ولا إلإجابة عن أسئلة الناقد العراقي إلا عبر أعمال قليلة جداً ومجزوءة، بعضها يصلح للرد وبعضها الآخر يعجز تماما عن ذلك. الهم الثقافي للدراما العراقية هو السؤال الأبرز الذي يجب على المعنيين بها أن يضعوه نصب أعينهم.أين موقع الثقافة العراقية ومستوياتها في ذهن أهل الدراما؟ هل يفكر صناعها بثقافة الفرد ويسعى لتطويره؟ أهناك من يواجه الرديء من السياقات والأنساق الثقافية السائدة في المجتمع كالتطرف العشائري والطائفي والقومي؟ لماذا لا نجد أدوارا لشخصيات مثقفة في الدراما العراقية كالشاعر والقاص والناقد، والمغني، والسينمائي، والمسرحي؟ لِمَ تكاد تقتصر الأدوار على ابن الريف الجنوبي لدرجة التشويه؟ ألا يمكن أن نعد ذلك قصوراً ثقافياً في جوانب درامية معينة؟ هذه التساؤلات وغيرها سنبحث لها عن إجابات عبر هذا الاستطلاع مع نخبة متميزة من مثقفينا.


رفع المستوى الثقافي للمتلقي

المخرج رضا المحمداوي أشار إلى أن الجواب أزاء الأسئلة المطروحة في هذا الاستطلاع سيؤكد قصوراً وتراجعاً ثقافياً كبيراً في الدراما العراقية في تناولها ومعالجتها وتصديها للموضوعات الثقافية بإطارها العام، لافتا إلى أن الثقافة العراقية بمستوياتها ومعانيها كافة، تكاد تكون غائبةً تماماً عن المشهد الدرامي العراقي، ولا تحضر الثقافة العراقية وموضوعاتها في نتاجات الدراما إلّا بملامح شاحبة.

وأضاف المحمداوي مبيّنا: أكاد أجزم بأن صُنّاع الدراما لدينا لا يضعون نصب أعينهم أو ضمن أهدافهم، العمل على رفع المستوى الثقافي للمتلقي العراقي أو العمل على فتح آفاق جديدة، أو تحفيز التفكير الثقافي في عقل المتلقي أو مخيلته أو محاولة رمي الأحجار في المياه الراكدة في سبيل إشاعة نمط التلقي الواعي والمفكر، وهو ما يتجسّدُ لنا في غياب مفهوم الثقافة الواسع والشامل الذي بات متداولاً في الفضاء المعرفي العام، وكذلك يتجسَّدُ لنا في غياب الشخصيات الدرامية المتحرّكة والفاعلة والتي تحمل بين جنباتها الهم الثقافي أو تسعى من خلاله لرفع مستوى الحياة العامة وتحسين نوعيتها، وبغياب مثل هذه الشخصيات يغيب معها الحوار المثقف الذكي والجاد القائم على الجدل والمحاججة وطرح الأفكار وما يناقضها، وبدل من ذلك نجد أنّ نوعيَّة ذلك الحوار تتدنى مستوياته ليصل أحياناً إلى درجة الابتذال والضحالة والسخف.

ومن هنا فإنَّ المحاولات التي يطرحها المؤلف الدرامي على وجه التحديد ومن ورائه الجهة المنتجة والممولة للعمل الدرامي قليلاً ما تتصدى أو تواجه العديد من الأنساق الثقافية القارة والمستقرة في أعماق بنية الدولة والمجتمع، وخاصة في مجتمع محافظ مثل المجتمع العراقي يوصف عادة بأنّه مجتمع عشائري وتشيع فيه الثقافة الدينية الشعبوية بأنماطها ومظاهرها المعروفة، ومع وجود هذه الخصائص والسمات تكثر أمراض الحساسيَّة والمخاوف والمحاذير والتحفظات والمحظورات في طرح ومعالجة الظواهر المتعلقة بهذه الموضوعات.

وقال المحمداوي أيضا: في ظل شيوع نتاجات الدراما الساكنة والخاملة بل والملفقة والكاذبة أحياناً تختفي الشخصيات المؤثرة والفاعلة مثل شخصية الأديب سواء أكان قاصاً أو شاعراً أو فناناً ذلك لأنَّ تقديم مثل هذه الشخصيات تصبح عملية شاقة وصعبة في طريقة بنائها وتقديمها بالنسبة للمؤلف وتتطلب جهداً استثنائياً لا سيِّما إذا كانت تتبنى موقفاً معاكساً للاتجاه العام أو مغايراً لما يدور في الواقع العراقي وأرضه المهتزة والمكتظة بالأحداث الملتهبة، وحتى لو حضرت مثل هذه الشخصيات فإنّها غالباً ما تكون مجرد ديكور خارجي أو تنويع شكلي بين الشخصيات لكن من دون أن تتضمن أو تحتوي أو تنطوي على مضمون أو محتوى ثقافي واضح ومؤثر.. وباختفاء وغياب هذه الشخصيات الفاعلة والمتميزة تصبح الساحة فارغة ومهيّأة لكي تحضر الشخصيات النمطيَّة ونماذجها الشائعة وقد أصبحتْ بتكرارها وإعادة إنتاجها أشبه ما تكون بالشخصيات الجاهزة ومنها على وجه التحديد الإساءة المتعمدة لصورة ونمط شخصية القروي ابن الجنوب العراقي المظلوم والمحروم والذي تم تكريسها وإشاعتها في ثقافة النظام الديكتاتوري السابق وجاءت النتاجات الدرامية طوال العشرين عاماً المنصرمة التي أعقبت سقوط ذلك النظام لتزيد وترسخ من هذه الصورة من دون أن تعمل على زحزحتها وإعادة إنتاجها من جديد في ظل المتغيرات الكبيرة التي حدثت في هذه الحقبة التاريخيّة.  


البحث عن منابع بناء الذات 

الشاعر نصير الشيخ تحدث عن سعي الدراما لتجسيد الحياة عبر أفعالها وشخوصها وأحداثها وبما يبرز هذا الصراع في مستوياته المتعددة، سواءً بحثا عن الحقيقة او لترسيخ قيم مجتمعيَّة ما، او لتسليط الضوء على ثنائيات حياتيّة ووجوديّة مثل الخير والشر والجمال، والقبح، والحب، والكراهية..

وأشار الشيخ في حديثه إلى مواكبة الدراما العراقية لتحولات المجتمع العراقي عبر زوايا نظرها المختلفة وبحدود قدراتها الإنتاجية مبرزة الواقع كرصيد أعلى في قدرتها على التجسيد، ولكي لا تفقد الاعمال الدرامية المعروضة على الشاشة نصاً وإخراجاً ورؤية بوصلتها في تقديم ما يشد المشاهد إليها أرخت حبلها عند ظواهر مجتمعيَّة وبؤر معينة ترصد «القاع» بغية تقديمها لقمة سهلة للمشاهد وبدواعٍ «فكاهيَّة». 

وأضاف قائلا: حقا كانت حصة «الجنوبي» رجلا كان ام امرأة، صورة نمطية دالة على البسيط والخائب والمغفل ربما... وبما يشي بتخلفه المديني والحضري.

يرافق هذا التجسيد في الأعمال الدرامية غياب «الشخصية المثقفة» والتي تلعب دورا محوريَّاً في العمل التلفزيوني أو لتكون قطب الرحى في هذا الصراع الدرامي وبما يقدم لنا إنموذجاً يترك أثره في الذائقة والذاكرة والتاريخ.

وإن توفر هذا الأنموذج في بعض الأعمال بشخصية (الشاعر/ الرسام/ الصحفي/ الروائي...) فنراه يظهر شخصية قلقة، انفعاليَّة، تحمل من السلب الكثير، ونمط منعزل عن مجمل الأحداث التي تمر في الحياة وتفاصيلها.

لكن استدرك هنا وأقول من متابعة ربما تبدو غير فاحصة جداً، إنّه وبسبب الانفتاح الإنتاجي والإخراجي والتلاقح الفني بين مؤسسات الإنتاج والوعي الذي يمتلكه كتاب النصوص الدرامية حصل توجه نحو استحضار الشخصية الثقافية بكل محمولاتها وربما من جانب آخر تحضر كمعادل موضوعي للشخوص الأخرى وهي تخوض في وحل الجريمة وغسيل الأموال وملف المخدرات التي تناولتها وما زالت تتناولها الاعمال الدرامية بهوس وحضور مفرط.

ويحضر في بالي الآن مسلسل «الفندق» للسيناريست حامد المالكي، الذي جسد شخصية المثقف وحامل الأفكار الفنان محمود أبو العباس، من هنا تكون دعوتنا للزملاء كتاب السيناريو لقراءة العديد من الروايات العراقية، وحقا هناك أكثر من رواية تستحق أن تعالج دراميا وبشخوص تحمل من الثقافة والفكر ما يشكل عنواناً بارزاً لتحولات المجتمع العراقي وحضور النخب المثقفة فيه.

وهنا يكمن إرساء معالجات جديدة لكسر الصورة النمطيَّة للإنسان في الأعمال الدراميَّة السابقة والماضية، والإتيان بما محدث ومواكب للواقع العراقي في الدراما العراقيَّة. 


مؤتمر لمناقشة ثقافة الدراما  

ابتدأ الناقد زهير الجبوري بالإشارة إلى مسألة عدّها غاية بالأهمية هي الثقافة البصريَّة وتأثيرها في المتلقي، لافتا إلى عدم إمكانيَّة فصل الميديا عن حياتنا، فهي جزءٌ مكملٌ لسلوكياتنا الحياتية شئنا أم أبينا، على حدِّ وصفه. 

وأضاف الجبوري قائلا: للحديث بتفاصيل دقيقة عن الدراما في بلدنا، نجد الكثير من العلامات والملاحظات التي تتحمّل سببها المؤسسة بالدرجة الأساس، لأنَّ خامة الإبداع الفني والجمالي ومواصفات المبدع العراقي متوفرة، تبقى الجهات الإنتاجية وكيفية العمل على تقديم الفن اللائق والمثمر، مثلما نلمس ذلك في البلدين الشقيقين مصر وإلى حدٍّ ما سوريا قبل 

محنتها.

كما أنَّ الاستعانة بالخبرات الكبيرة والموهوبة من خارج البلد لم نجدها بسبب سوء التخطيط وأحادية التفكير في اتخاذ القرار الجمالي في هذا الموضوع، فالعراق مليء بالموضوعات الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة والبيئيّة، وكليات الفنون ومعاهد الفنون تدرس هذه الموضوعات وتُخرج الكثير منها من دون الاستفادة من الجانب التطبيقي في 

ذلك.

أما بخصوص الأدوار المثقفة وعدم بروزها في الساحة الدرامية العراقية، قال الجبوري موضحا: يعود ذلك للتخطيط غير المنضبط من قبل المؤسسة ذاتها، وأعني المؤسسة الثقافيّة، على الرغم من وجود شخصيات تتمنى أن تشتغل وتقدم ما هو أفضل، إلا أن ذلك يعود إلى تردي الأوضاع العامة التي نعيشها وتأثيرها في أرض الواقع. 

ومن وجهة نظري يجب أن يعقد مؤتمر واسع من قبل أصحاب الشأن لمناقشة هذه المسألة بغية الوصول إلى نقاط تخدم الصالح العام، نحن في العراق لا نستطيع أن ننجح مشروعا ثقافيا (دراميا) إلا من خلال إسناد الدولة لأنّها باختصار شديد تمتلك رأس المال، ولو قدر فتح المجال لأصحاب رؤوس الأموال والاشتغال على القطاعات الخاصة بإشراف 

المؤسسة. 

أعتقد أنَّ ذلك سيرفد موضوعات كثيرة تتناول الشخصيات الثقافية وحتى السياسية، ثم تسوّق إلى بلدان أخرى، الدراما العراقية بعد الاحتلال، دراما خائفة، غير مستقرة من ناحية اختيار الموضوعات، والسبب هو وجود رقيب مجهول يهدد وجود كل من يعمل في ميدان الفن، لذا لجأ بعض كتّاب الدراما الى الموضوعات الريفية أو الاجتماعية البسيطة، في حين هناك موضوعات حساسة جداً وتستحق الدخول في تفاصيلها وتقديمها دراميا كبيع الأطفال والفتيات والبغاء والمخدرات وشبكات العصابة في ذلك، يمكن أن تكون لها لذة خاصة ومن خلالها وضع النقاط على الحروف.

وهناك فنون تقوم على جهد فردي كالتشكيل والموسيقى والعروض المسرحية، نجد الفنان العراقي يتألق فيها ويحصد الجوائز العربية والعالمية، وهذا مؤشر خطر على أن الدولة لا تفكر تفكيراً جاداً في خلق روح الإبداع واستثمار الطاقات هذه، وبالمحصلة فإن الدولة هي المسؤولة عن كل ذلك لأنّها لم تستطع خلق الجو المناسب للمبدع العراقي في إبراز طاقاته. 


تهميش البنى القيميَّة الجادَّة 

الناقد الدكتور صباح التميمي تحدث عن عيش المجتمع العراقي في مرحلة ثقافية حرجة جداً، يرى أنَّها مرحلة انقلاب سلبي تام، تسلّقت فيه الهوامش واحتلت مناطق المتون، ولا تقتصر هذه الحالة المرضيّة على حقل ثقافي واحد، بل أصابت معظم الحقول الثقافية الفاعلة، فلا عجب أن يتراجع (مُنتِج الدراما) مع مَن تقهقر من فواعل الثقافة وصانعيها اليوم! على حد قوله.

وأضاف التميمي مبيّنا: (الدراما) فعل تأثير خطير، صعوده والارتقاء به ينسحب على الارتقاء بثقافة المجتمع كلّه، لأنَّ النص (المرئي) أكثر تأثيراً في (بلاغة الجمهور) من النص المقروء الذي يتمّ تعاطيه وتداوله في زوايا قصيَّة عن هذه البلاغة العامة، وها نحن نشهد تقطيع أوصال مشاهد (درامية) هزيلة بثقافة (الريلز)؛ لتسليعها وإشاعتها بشكل يُعطي انطباعاً سلبياً عن مستويات الثقافة التي وصل إليها مجتمعنا، ويُفكّك البنيات العميقة فيها، ويُحوّلها إلى محتويات (هابطة) لا تُنتِج سوى (ثقافة القهقهة) التي تُهمّش البنى القيميّة (الجادة) الثاوية في أعماق المجتمعات الريفيّة، والتي كانت تُمثّل فيما مضى أدواتٍ ناجحة لصناعة ذات معتدلة غير مهزوزة.

ومما يؤشّر خطورة الدراما وضرورة إعادة قراءة طرق إنتاجها، تأثيرها السحري الذي يسري في طبقات المجتمع المختلفة بسرعة الضوء، ويصنع فارقاً بما يطبع في تربية جيل بأكمله من آثار ثقافة معيّنة، فالذاكرة العراقية الجمعية تحتفظ لنا بصور لأبطال دراما بقوا عالقين فيها لأكثر من جيل كشخصية (ساري العبد الله) البدويَّة مثلا، وهي قصة حياة شاعر شعبي تُرجمت إلى فعل درامي ناجح، خلّف أثراً عميقاً في المتلقي العربي، ومما هو قريب من أيامنا هذه، مسلسل (أبو الطيّب المتنبي)، وقد قام بتجسيد شخصية أبي الطيّب فيه الفنّان السوري (سلوم حداد)، والمسلسل من إخراج الأردني (فيصل الزعبي) ومن إنتاج تلفزيون أبو ظبي سنة 2002م، وقد اشترك فيه بعض من نجوم الدراما العراقيَّة. 

وتساءل التميمي قائلا: هل تبدو الدراما العراقية عاجزة عن صناعة مُنتَج درامي يكشف عن مضمرات الثقافة الوطنيّة ومقتنياتها الفنيّة الثمينة التي تجهلها أجيال اليوم التي سيطرت عليها ثقافة (الريلز) و(القهقهة)؟

يبدو لي أنَّ الإشكال لا يكمن في عدم توفّر الإمكانات البشريّة والماديّة والفنيّة، بل المشكلة تكمن في فواعل الانتاج الدرامي (المُنتجِين)، والغايات التي توجّه تفكير هذه الفواعل من جانب، والصمت الذي أدخل دراميي الأجيال الصحيّة السابقة (الستينيات والسبعينيات والثمانينيات) في سبات عميق، وعزلة 

سلبيّة!

يُضاف إلى ذلك صعود جيل درامي شبابي فقير جداً في بنيته الثقافية، وهو نتاج طبيعي لمرحلة قُوِّضَت فيها الثقافة بشكل مُنَظَّم، منحها انفتاح العقل العراقي على العالم تكنولوجيّاً لوناً من السلطة الجمعيَّة التي باتت ترفض العودة إلى منابع الثقافة الصحيَّة، وأخذت تضع ممارسي هذه الثقافة في دائرة الكلاسكيات الميّتة.

وما عادت القراءة الورقيَّة تؤثّر في هذا الجيل القِشْرِي، الذي يهيئ نفسه للذهاب في رحلة لشارع الثقافة العظيم في بغداد - أعني شارع المتنبي - من أجل أن يُمارس قشور الثقافة، ويتعاطى الضار منها، ويلتقط صوراً لفعله هذا في نهاية الرحلة الفارغة؛ كي يظهر بمظهر المثقف! لأنَّه ببساطة نتاج مرحلة قِشريّة تحتاج منّا جميعاً وقفة جادة تُعيد للقراءة بريقها السابق؛ لبناء عقليّة دراميّة 

مثقّفة.