خطورة طوق الدائرة

ثقافة 2023/03/27
...

  ياسين طه حافظ

هذا العنوان، خطورة طوق الدائرة، يجمع بين التحذير «العسكري» وبين المعنى الأدبي. والغريب أن الشعر لا يفارق أي موضوع من موضوعات حياتنا وأي مشهد: نجده واضحاً أو منزوياً في مكانٍ مما نرى ومما نعمل ومما نقول. وقد يكون في صدارة المجلس أو وراء الأحاديث. وكما ترون، له بعض حضور في عنوان كلامنا: فبين خطورة وطوق الدائرة نحسُّ بإنسان محاصر.

في فوضى حياتنا وتنوع مكوناتها ومشكلاتها نحن نعيش كما شبكة داخل شبكة من العقد والمواجهات كما من المعاني. وفي جميعها جانب من أرواحنا يلتمس الشعر أو يتمناه. هو لا يريد أن يبقى، أن يهيمن عليه يباس وميكانيكية الكلمات بلا ما يمنح عذوبة أو لطفاً لتُستساغ، وكذلك ما نقوم به من أعمال. فمع الشعر يكون العمل حماسةً وحباً.

عموماً الحياة المفعمة، حياة، كل الأرواح العظيمة، تريد معاً صعوبة الحياة وبهجتها. تزيد قوة الحياة والمعنى. أما أولئك الذين نسميهم العتاة أو الأجلاف، الذين يتباهون بتلكما الصفتين الكريهتين في سلوكهم والنوايا، فإن كنا لا نكرههم فنحن نسأم منهم ولا نود ذكرهم. لكننا في حال أخرى قد نكون قساةً أيضاً بما وصفنا.

لذلك نعود ونسميهم، لطفاً، بالعمليين والمنشغلين ليل نهار بالكسب الجاف والكلام الآلي والشراهة ونادراً ما نحسُّ في كلامهم أو عملهم محبّة حقيقية. أولئك نهتم أو، نادراً ما نقدر، جانب التضحية عندهم، التضحية بالبهجة وإنسانيَّة الحياة وجماليات الترف مقابل لا أقول جمعهم الذي لا ينتهي، ولكن أقول، بنوع من الاحترام، لكي يوفروا ويتركوا لسواهم أملاكاً وأرقاماً. الكسب عندهم شاغل وهوسهم باتساع الأرقام هدف. مقابل كسب هؤلاء حجم خسارتهم للبهجة بالحياة والفن. خسارة كبيرة لهم وحظوظ كبيرة لورثتهم فلنتفق ولنحترم.. فما أعظمهم لو جمعوا الاثنين الحماسة – العمل وجمال الحياة لتكون الإنسانية فيهم متكاملة وحياتهم غير مفتقرة لما يجعل الحياة»حياة»!

 ليكن لأولئك عملهم ونتمنى لهم اكتماله بالمعنى، فنحن الآن بصدد آخرين متفردين لا يكتفون بعمل ولا بثقافة واحدة.

كلامنا هذا وتصنيفنا، لا يظلان صحيحين حتى نتعرف على ناس أكثر منا تعافياً بروح الفن وأقرب منا إلى عوالمه وأحياناً إلى أسراره وهم ناس عمل ومشاريع. أطباء عظام وتجار وأصحاب مؤسسات، بل وناس جمعوا الفن والصناعات الحربيَّة! لا محال لإنكار وجودهم، لبعضهم لوحات باهرة العمق والمعنى ولبعضهم كتب تفيد قراءتها وحضور عملي بمؤلفات موسيقية يستمع لها الناس منذ عشرات السنين.

أشير إلى واحد منهم دافنشي، الذي نعرفه رجل فن وإبداع. دافنشي كان مهتماً بالمسائل الحربيَّة لا الفنيَّة وحدها. وأنّه اعتمد في حياته أو عيشه على كفاءته الحربيَّة. وأشار لها تفصيلاً في طلبه لمنصب من دوق ميلان. هو يقول إنَّ له طريقة لتركيب الجسور الخفيفة لمطاردة العدو وطريقة لتدمير جسور الأعداء ويمكنه نزح الماء من الخنادق وصنع المدافع الخفيفة، سهلة الحمل التي تقذف المواد الملتهبة ودخانها يلقي الرعب في قلوب الأعداء وحفر الانفاق للوصول إلى أمكنة صعب الوصول إليها.. وإذا تعذر استعمال المدافع فبما يدمّر السفن. ويمكنه أيضاً - وأيضاً. هنا مهمة جداً – يمكنه أوقات السلم أن ينشئ العمارات ويقيم التماثيل العامة والخاصة وحفر أو إنشاء القنوات ورسم صور كأحسن ما يكون الرسم..

هل يدعي ذلك دافنشي؟ 

لا ليوناردو دافنشي ترك رسوماً وتصاميم لها صفة حربيَّة. 

لنأخذ مثالاً آخر قبل أن نقول رأينا في هذه الظاهرة البشريَّة متعددة القدرات. غاليلو كان أستاذ الشؤون الحربيَّة في جامعة بافتا ولم يتمكن من بيع اختراعه التلسكوب لأغنياء البندقيَّة إلّا باعتباره ذا فائدة في الحرب والبحريَّة.. وهو أول من وضع سُلّماً موسيقياً، كما كان رياضياً فاز بمسابقات الملاكمة اليونانية القديمة، وتلقى أسرار الدين المصري ثم الديانة اليهودية. وحين أخذ أسيراً تلقى تعاليم الكهنة الكلدانيين وأيضاً عاش قصة حب مع بيثبا.

وفيثاغورس، القرن السادس قبل الميلاد، عازف هارب وفلوت. هنا لسنا في موضوع احتراف المهن أو الصناعات. نحن هنا في حال نمتلك فيه تنوعاً باهراً من الثقافات. قدرات عملية يمكنها الهيمنة على موضوعات تبدو لنا متباعدة وهي متصلة بأسرار بينها قربى. نحن نعرف أسلافنا العظام في زمنهم وزمننا كانوا لغويين ورجال أدب ورواة ولهم باع في الرياضيات والفلك والطب كما الفلسفة. هي موضوعات تبدو متعارضة أو متباعدة، لكن أصحابها، بثقافتهم، اتصلوا بالسر الجامع لها. واليوم في الجامعات الحديثة، وفي جامعة واحدة، يدرسون الفلك أو الفضاء والجراحة الطبيَّة والكيمياء وعلم النفس والفنون والآداب.

هي جميعها في مبنى واحد، وهي جميعها تلبية لاحتياج بشري. وقد نجد في هذا المجلس أو هذا المنتدى من ألمَّ بقدرٍ من العلوم المتصلة بتخصصه. هي نزعة محترمة وجليلة للتكامل. هو مطلب الثقافة المتكاملة..

نحن في عصر متعدد الثقافات وصعب الاكتفاء بموضوع واحد هو موضوع التخصص. التخصص، مثلما هو ضروري هو محترم لكن المهندس المعماري يحتاج الى مكملات تُلائم تطور العمارة، وكذلك الحال بالنسبة للطب أو النص الأدبي. من قراءاتنا للروايات الحديثة نشهد اليوم كماً محترماً من المعلومات التاريخيَّة والنفسيَّة والبيولوجيَّة وتاريخ المدن وأحياناً  الصناعات، فضلاً عن السياسة وشؤونها. ما عاد صحيحاً الانعزال، والانشاءات الانطباعيَّة صارت تبدو هزيلة. في عصرنا لا يقوى تخصص بعيداً عن الثقافات المكملة والمساعدة له. دارس اللغة اليوم يحتاج مختبراً! وانغلاق الدائرة سيؤدي لاحقاً الى فقر النص وإنهاك التخصص.