قراءة في نقد النقد الثقافي

ثقافة 2023/03/27
...

 د. وسام حسين العبيدي

في كتابه الذي صدر مؤخرًا بعنوان (نقد النقد الثقافي) ضمن سلسلة «دراسات فكريَّة» التابعة لجامعة الكوفة، والصادر من دار الرافدين/ بيروت عام 2021. ينفتح الناقد والأستاذ الأكاديمي الدكتور عبد العظيم السلطاني إلى مساءلة الخطاب النقدي الثقافي في أصوله المعرفيَّة ومرجعياته الغربيَّة التي نهل منها النقاد العرب في مستهلّ الألفيَّة الثانية، وتمّ ذلك له في التمهيد والفصل الأول. أما الفصل الثاني فقد تناول فيها التمييز الجنوسي ضد المرأة في الخطاب التربوي.

 مشخّصًا فيه ذلك التحيّز الذكوري الذي يُدلِّل عبر شواهد عديدة في كتب القراءة لمراحل دراسيَّة مختلفة، على قصديَّة ثاوية في الذهنيَّة العامة لواضعي تلك المناهج، ثم يقف في الفصل الثالث منه على قراءة ثقافيَّة نقديَّة لمذكّراتٍ دوّنها الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السيَّاب، والذي يهمّني عرضهُ في هذه المقالة، الوقوف على بعض ما ورد في مقدِّمة هذا الكتاب وشيئًا من التمهيد؛ لما أراه من أهمية استثنائية لهما في هذا المنجز، فقد كانت المقدمة عرضًا للمسوِّغات التي دفعت المؤلِّف إلى إنجاز هذا الكتاب، وإذا تجاوزنا قوله في أول فقرة: «النقد الثقافي شكلٌ من أشكال المعرفة، وكلُّ معرفةٍ بحاجةٍ دائمة إلى الفحص والمراجعة. وتُضاف إلى هذا أسباب خاصة بالنقد الثقافي، تجعل حاجته إلى الفحص والمراجعة مضاعفة ودائمة، فهو مرتبطٌ بالحياتيّ والواقعي والمتحرِّك، ومثل هذا الارتباط يدفع إلى رفض الثبات على نحوٍ جامدٍ ومُكرَّس» الذي يؤشِّر فيه إلى أهمية المراجعة النقديَّة داخل منظومة كل خطاب نقدي، ومن ضمنها خطاب النقد الثقافي، وإلى ضرورة أن تكون هذه المراجعة خاضعةً لاشتراطات المنهج العلمي الذي يُحدِّد مكامن الخلل في مضمرات ذلك الخطاب، أو فرز ما تمَّ تجاوزه زمنيًّا من متبنّيات تلقّفها منظِّرو ذلك الخطاب؛ بما يجعل هذه المراجعة المعرفيَّة مرنةً قابلةً للتعديل والتشذيب بما ينسجم وإيقاع الحياة ومتغيّراتها، وتتعاظم هذه المراجعة حين يكون الخطاب النقدي المدروس يتعلق بالنقد الثقافي المرتبط بتحوّلات كل مرحلة زمانيَّة وارتهانه للقيم المرتبطة هي الأخرى بالمجتمع وتحوّلاته الثقافيَّة أو الاجتماعيَّة أو السياسيَّة.. فإنَّ ما يلي هذه الفقرة بقليل، يؤشِّر إلى أهمية ضبط الدراسات الأكاديميَّة وفقًا لمقتربات نقد النقد، وإلا ستكون الدراسات المُنجزة في هذا الحقل، فاقدةً لشروطها المعرفيَّة الصارمة التي ينبغي أن تنطلق منها وتشتغل عليها في كل ما تقف عنده من ظواهر ثقافيّة. وهذا ما نلمسُه في قوله: «فالنقدُ الثقافيُّ اتَّسعَ لدى فريقٍ من الناس، حتى صار ملجأً لمن ضاقت به الحِيَل، وعجزَ عن أنْ يقولَ شيئًا مُفيدًا في عالم النقد. فأطلقَ العِنان للنقد الثقافيّ فانفلتَ من عقال الضبط المعرفيِّ حتى لم يعد هو، حين اتَّسع لدى هذا الفريق من الناس، وصار بلا شواطئ، فصارت حسنةُ المُرونةِ المغروسة فيه نقمةً عليه، محت الخصوصيَّة ومسخت الهويَّة. وفريقٌ آخر ضيَّقَ على النقد الثقافي مسالكه وغاياته، حتى حجبَ بعض فاعليّته وإمكاناته، وحرمَ الحياة الثقافيَّة من خدمةٍ كان يُمكن أنْ تُقدَّمَ لها» وأرى أنَّ تكرار وصفه لمن خرج بالنقد الثقافي عن ضوابطه وعن مرونته التي ينبغي أنْ تُراعى هي الأخرى، بـ «الناس» كان مقصودًا لديه، فهو لا يجد فيهم أي علاقة تربطهم بصفة «الباحث» الأكاديمي أو «الناقد» وكأنّه لا يجد لهم عذرًا في تنكّبهم طريق البحث إنْ ضيَّعوا البوصلة في تمثّلهم الجهاز النظري لخطاب النقد الثقافي...! وهذه الصرامة في التوصيف لها مثيلاتها في تراثنا العربيّ، حين ينتفض الغيور في تخصّصه، ويرى من حوله يهرفون بما لا يعرفون، ومن أولئك ما ذكره الجُمَحي (ت: 232 هـ) عن حال محمد بن إسحاق راوي السيرة النبويَّة، «وَكَانَ أَكثر علمه بالمغازي وَالسِّيَرِ وغير ذَلِك فَقبل النَّاس عَنهُ الْأَشْعَار وَكَانَ يعْتَذر مِنْهَا وَيَقُول لَا علم لي بالشعر أَتَيْنَا بِهِ فأحمله وَلم يكن ذَلِك لَهُ عذراً فَكتب فِي السّير أشعار الرِّجَال الَّذين لم يَقُولُوا شعرًا قطّ وأشعار النِّسَاء فضلا عَن الرِّجَال ثمَّ جَاوز ذَلِك إِلَى عَاد وَثَمُود فَكتب لَهُم أشعاراً كَثِيرَة وَلَيْسَ بِشعر إِنَّمَا هُوَ كَلَام مؤلف مَعْقُود بقواف. أَفلا يرجع إِلَى نَفسه فَيَقُول من حمل هَذَا الشّعْر وَمن أَدَّاهُ مُنْذُ آلَاف من السنين» وكم كنتُ أتمنّى أنْ أقرأ في هذا الكتاب فصلاً يتناول فيه الناقد، بعضًا من تلك الدراسات المُنجزة في هذا الحقل، وهي لا تمتُّ أصلاً إلى أعراف هذا الخطاب، إلا بقدرٍ شكليٍّ ضيّق لم ينفتح على مظاهر أخرى تطالها أدوات النقد الثقافي ومقترباته، لا سيّما وهو الضليع بما يتطلّبه الناقد من مؤهِّلات وإجراءات في «نقد النقد الأدبي» بعامّة، و»نقد النقد الثقافي» بخاصّة، لما أنجزه في كلا الحقلين من دراسات بدءًا بأطروحته للدكتوراه التي نالها عام 1997عن «نقد التأليف الأدبي عند العرب بين الحربين العالميتين» وكان موضوعها بكرًا في هذا الحقل. ومن ثمَّ كتابه المهم «خطاب الآخر – خطاب نقد التأليف الأدبي الحديث أنموذجاً» الصادر عن دار الأصالة والمعاصرة في ليبيا عام 2005 وبعده كتابه «مقاربات في تنظير نقد النقد الأدبي» الصادر عن دار تموز في سوريا عام 2018 ولكن كما قيل: ما كل ما يتمنّى المرءُ يُدركه. ونُشير إلى قوله في المقدمة مُشخِّصًا ضيق الأفق الذي يستولي على الفريق الآخر من «الناس» الذين ولجوا هذا الحقل، من دون أنْ تتوفَّر لديهم الدراية الكافية التي تجعلهم يُكيّفون مقتربات خطاب النقد الثقافي بما ينسجم ومرونة المساحة التي يشتغل عليها، وذلك في قوله: «فإمكانات النقد الثقافي أكبر من أنْ تُقصر على ما شاع من تصوُّرٍ تمَّ تكريسُهُ في النقديّة العربيّة وسرى على نطاقٍ واسع، وصار يختزل النقد الثقافي بأنّه: التفتيش عن نسقٍ مُضمر يُناقض الظاهر، وأن يكون هذا النسق قُبحيًّا وفي نصٍّ جماليٍّ، وأن يكون هذا النص من نصوص الهامش غير الرسمي، وأنْ يكون من حدَّدَ جمالياته الجمهورُ لا المؤسسةُ الرسميَّة» وكل هذه الاشتراطات يرى فيها سببًا لتقزيم خطوات هذا الخطاب واختزاله بإجراءات ميكانيكية – إن صحَّ الوصف- تحِدُّ من فعاليته، بما يُفضي به إلى أنْ يكون مثل سابقه من مناهج النقد الأدبي التي يمكن أنْ نلتمس لها العذر بأنَّ طبيعتها الإجرائيّة تُحتِّم على المشتغلين وفقها أنْ يقفوا على ما تُحدِّده تلك المناهج من إجراءات لا مناص لهم بأن يتجاوزوها إلى سواها. وبين هذين الفريقين ضاعت الفرصةُ الحقيقيَّة التي كان للناقد الثقافي أنْ يؤدّيها في قراءة الخطابات الأدبيَّة وغيرها. ومن هنا أراد السلطانيّ – مؤلِّف الكتاب- أنْ يؤكّد على الغرض الذي يرسمه في هذا الكتاب، بقوله: «إنَّ النقد الثقافي يتعرّضُ للظلم في كلا الحالين، فهو غير واسعٍ حدّ الانفلات والتيه، ولا هو ضيِّقٌ ليكون كثقب إبرة؛ لذا كانت صفحات هذا الكتاب محاولةً في وضع أُطُر معيّنة لمفاهيم أساسيَّة، وإيجاد منطلقات مُساعدة، تسعى إلى إخراج النقد الثقافي من الهُلاميَّة والاستنتاجات المبنيَّة على مجرّد تصوّرات، بحثًا نقديًّا يستند إلى أدلّة وإحصاءات وبيانات، فضلاً عن إفادته من النظريات النقديَّة والثقافيَّة واللغويَّة». ويرى كاتب المقالة، أنّ هذه الغاية التي أعلن عنها المؤلِّف، لم تتحقّق بصورة كاملة على جميع فصول الكتاب، ما خلا التمهيد والفصل الأول، فهما يدخلان في صميم الغاية التي أفصح عنها المؤلف؛ لكون المتون – في الفصل الثاني والثالث- التي توقّف عليها الناقد، لم تكن نصوصًا تمثّل نقدًا ثقافيًّا، حتى يأتي الناقد الثقافي في إطار «نقد النقد الثقافي» مشتغلاً على نقد إجراءاتها المنهجيَّة، وبحسب عبارةٍ وردت للمؤلِّف – في كتاب مشترك يحمل عنوان: نجم عبد الله كاظم أكثر من حياة، كتاب الأقلام، 2021م: ص 62- تؤكِّد تشخيصنا في هذا المقام، يقول فيها: «فنقد النقد يتحقّقُ وجودُهُ ومعناه حين يشتغل على نصٍّ نقدي، سواء أكان ذلك النصُّ النقديُّ مقالةً أم كتابًا، فنقد النقد يبحثُ عن النقد حيثما كان وكيفما وُجِدَ لِيَنقُدَهُ»، أو في عبارةٍ نقتبسها من كتابه [مقاربات في تنظير نقد النقد الأدبي، ص:30] وهو يتحدث عن المستوى المنهجي لنقد النقد، وذلك في قوله: «وفي المستوى المنهجي يمكن لنقد النقد الثقافي فحص درجة مواكبة التطوّر المنهجي العالمي في النص النقدي [...] مثلما يمكنه فحص الحيل المنهجيَّة في تسويق أفكار معيّنة في النص النقدي» وكلا الاقتباسين، يؤكِّدان على صفة «النص النقدي» متنًا يشتغل على أساسه نقد النقد الثقافي؛ لأجل التفريق بينه وبين النقد الثقافي الذي يتحقّق وجوده على المتن الأدبي أو غيره من خطابات يُمكن أنْ تُدرس وفق مقترباته، وإلا ساد الخلط بين الاتجاهين..

وعلى أيِّ حال تبقى مساهمة الدكتور السلطاني في هذا المجال غنيةً ومهمّة، ونابعة من همٍّ جاد يتّصل بطبيعة اشتغاله الأكاديمي في هذا الحقل، مؤكِّدًا في كل ما يُنجزه في هذا الحقل مواكبته الجديد من المناهج النقديَّة، وحرصه على أن يكون تطبيقها موافقًا لاشتراطاتها المعرفيَّة التي أشرنا إليها في بداية المقالة، ولتصاعد وتيرة «المحتوى الهابط» لا في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بل في مختلف مناحي الحياة، ولا سيّما الأكاديمية حين تضرب اللا موضوعيَّة أطنابها في صفوف الباحثين لا عن غايةٍ نبيلة تصبُّ في ارتقاء المجتمع علميًّا بقدر ما تصبُّ في غاياتٍ نفعيَّة أبعد ما تكون عن هموم البحث العلمي وما يتّصل به من قضايا تنفع الصالح العام، فلا بُدَّ من رقابةٍ علميَّةٍ دقيقة تطال مناهج النقد لا تتحقّق إلا عبر «نقد النقد» الذي يؤدّي هذه المهمة بأعلى قدر من

المسؤوليَّة.