عبد الرحمن الذي سحرته المدن

ثقافة 2023/03/28
...

  باسم عبد الحميد حمودي


كان والده مجيد بدر الربيعي من قرية (أبو هاون)، المطلة على نهر الغراف بين مدينتي الرفاعي والشطرة، ولكنه انتقل إلى عاصمة اللواء الذي كان يسمى (المنتفك)، وهي اليوم مركز محافظة الناصرية التي كانت تسمى (بعد المنتفك) ذي قار، تأكيدا لمعركة قديمة.عندما ولد عبد الزمان مجيد بدر الولد الثاني لوالد عبد الرحمن، كان صاحبنا الراحل يدب على الأرض قبل دخولِه المدرسة الابتدائية بأعوام، ولكنه  في مدرسة الملك فيصل الابتدائية، كان مأخوذا بتفاصيل مدينته الجميلة المرسومة شوارعها بعناية.


 والمتقاطعة طولا وعرضا مع النهر، الذي اعتاد عبد الرحمن الصغير أن يجلس على ضفته، ليرسم خربشاته الأولى.. النخيل والزوارق الصغيرة التي يصنعها صابئة المدينة الذين تخصصوا بصناعة القوارب عند النهر وصياغة الفضة.

كان بستان عواشة يسحره وسوق الناصرية القديم عندما يقاد وهو صغير اليه يشعره بالدهشة، لكن ذاكرته كانت تختزن شخصيات المدينة المهابة والشعبية مثل (جودي).

ولا شكَّ أن تفوقه عن سواه بإمساك ريشة الرسم أو صله إلى أبواب معهد الفنون الحميلة ببغداد عام 1957، وهو المعهد  الفني الوحيد في العراق آنذاك، الذي يقبل خريجي الدراسة المتوسطة، ويمنحهم الدبلوم في التشكيل والمسرح والموسيقى بعد دراسة خمس سنوات.

كان من زملائه من أهل الناصرية في قسم المسرح  الفنانين عزيز عبد الصاحب المؤلف  والمخرج والممثل البارع، ومحسن العزاوي (دكتوراه المسرح في ما بعد)، لكن زملاءه في فرع الفنون التشكيلية كان منهم أبرز رسامي العراق الشباب حينئذ: رافع الناصري وهاشم سمرجي والخزاف طارق ابراهيم، وكان معهم شقيقي هاشم، الذي كان مميزا لكنه ترك المعهد بعد عام ملتحقا بالدراسة الإعدادية ليصبح محاميا، ظلَّ الرسم هواه 

الأول.

المهم أن عبد الرحمن قد اختزن من بغداد الكثير ويومياته في (عيون في الحلم) التي تكشف عن سهراته المرحة مع أحمد العيد ومغامراته لا تصور الشخصية الحقيقية لأحمد العيد (وكان عبارة عن بورتريت  للمؤرخ المسرحي أحمد فياض المفرجي)، ولا الشخصيات الأخرى التي ظهرت في (عيون) وفي روايات (الوكر) وسابقتها (الأنهار) مثل المذيع عبد اللطيف السعدون ودكتور الصحافة اللصيق به وهو خالد حبيب الراوي.. وسائر زمرة الفن والأدب مثل الشهيد أبراهيم زاير وسواهم.

لم تشعل عبد الرحمن الأسماء، بل كان مأخوذا بمنهج هذه الشخوص الحياتي.. يأخذ منه ويضيف اليه في (القمر والأسوار)، وفي (الأنهار) التي طغت فيها شخصية صلاح كامل البطل.. الرسام الذي صنع ملحمة جلجامش الناصري ابن أوروك من جديد.

كانت (الوشم) عام 1972 هي المفتتح الروائي الأول الذي كسر تابوات الخروج على المألوف السياسي العقائدي وانتشال الفرد الذي ضاق بتقاليد القبيلة السياسية، فتمرد عليها وكتب نشيجه السياسي المتمرد ليتصالح مع ذاته  في الأقل.

في (القمر والأسوار) و (خطوط الطول) و(نحيب الرافدين ) تجد بيروت حاضرة كما تونس وبغداد (وهي مدن أقام بها وسحرته)، لكن (الناصرية) تظلُّ مدينته الأثيرة التي عاد اليها دوما، ليمنحها حبه الدائم ويطلب المغفرة منها لانه تركها فترات الى مدن اخرى.

عبد الرحمن مجيد الربيعي هو ابن هذه المدن، التي شدته إليها وسحرته عوالمها ودهاليزها الفنية والعاطفية،  لتصنع منه ذلك الكاتب الدرامي المرموق، الذي قدم للأدب العراقي الكثيرممهورا ببصمته الخاصة.