الفيلسوف والغرابة

ثقافة 2023/03/28
...

 كه يلان محمد


المحك الأمثل لمصداقية الأفكار ليس المُطابقة مع الواقع أو تضخم عدد الموالين لها فحسب، بل إلى أي مدى تُمثل حياة صاحبها، لأنَّ الفكر لا ينفصل أبداً عن الخط السيري، ومن هنا نفهم ما قاله نيتشه بأنَّ في النُظم الفلسفية التي تهاوتْ ثمة شيءٌ لا يمكن دحضه، وهذا الشيء هو العنصر الشخصي الذي يثيرُ اهتمام المُتابعين باستمرار. ومن المعلوم بأنَّ ما يجذبُ الانتباه إلى مؤلفات صاحب «جينالوجيا الأخلاق»، هو التشابكُ بين حياته الشخصية وتحولاته الفكرية في مراحل مُختلفة. عليه فإنَّ تفاصيل الحياة اليومية لأصحاب المشاريع الفلسفية لا تقل أهمية وقيمة عن اختراقهم للمحدود في التفكير واكتشافهم لمناطقَ غير مطروقة في الاشتغال المعرفي، فالمصدر الحقيقي لنشوء الأفكار هو الواقع وما يتمُ إدراكهُ، من خلال المواكبة للحراكات المحمولة بنواةِ ما هو جديد ومختلفُ عن السائد. فالأهمُ على هذا الصعيد هو ما يلاحظهُ المتأمل في مواقف الفلاسفة من الغرابة المسكونة في طبيعة حياتهم. فكان الفيلسوف الأولُ طاليس الذي أثار تعثرهُ، وهو يمشي ناظراً إلى السماء سخرية الفلاحة التي أطلقت ضحكة على ما رأته، ولسان حالها يقولُ بالتهكم أنى لك يا طاليس أن تعلم أسرار السماء وأنت لا تستطيعُ أن ترى موطئ قدمك.


الجدليَّة

لا تنتهي قصة طاليس عند هذا الحد. بل هو قد تعرض للاستهزاء بسبب ملابسه القذرة ومزاجه المشتت، فقد قارنهُ سكانُ ميلوس بالثعلب حسب رواية أنطوني ماكغاوان في كتابه “كيف تلقن كلبك الفلسفة؟” لأنَّه قد دأب على انتقادِ أولئك الذين لا شغل لهم سوى تراكم الأموال وإدارة الأملاك فسبب هذا الموقف المناوئ للثروة بنظر العامة هو أن الفيلسوف يفشلُ في ما يدرُ عليه بالثروة، لذلك لا خيار له غير أن يُحمل على من لا يستهويه إلا المال والمكاسب المادية. لكن طاليس قد استفاد من معرفته بالرصد الجوي ليستنبطَ ما يكون عليه المناخُ المواتي لمحصول الزيتون، فبادرَ بشراء جميع معاصر الزيتون، وبهذا تمكن من وضع الأجرِ الذي يريده وكسب مبالغ طائلة. 

إذاً الأهمُ في طاليس ليس غرامه بالسماء وحركة الأفلاك ولا تنبوئه بخسوف القمر أو قوله بأنَّ أصل الأشياء ماء، بل مرونته بالتخلي عن عباءة الفيلسوف مؤقتاً عندما تحداه أهالي ميلوس، ما يعني أنَّ التجاهل للريبة الناشبة لدى العامة بشأن جدوى الاشتغال المعرفي أو العلمي والاعتصام بالبرج العاجي لا يعد تصرفاً مُقنعاً بل  يستدعي الموقف هذا تحويلَ الخلاصات الفكرية إلى أدواتِ فاعلة لتثوير الواقع. لأنَّ الأفكار المُستقاة من التجربة الحياتية لابُدَّ أن يكون لها مفاعيلُ واضحة على المستوى الواقعي وإلا فإنَّ التراوح في التجريد حجاب للبصيرة.


موت سوريالي

 الكلامُ عن الغرابة يحيلُ إلى شخصية فلسفية مثيرة للجدل بتقشفها من مباهج الحياة وانشقاقها عن كل ما يشد الفردَ نحو التعلق بالمظاهر والأعراف. فاختارَ ديوجين البرميل مكاناً للإيواء إليه. والأغراب من ذلك أنَّه كان يجوبُ شوارعَ أثينا في وضح النهار حاملاً قنديله وعندما كان يُسألُ عن الضالة التي يبحثُ عنها يردُ قائلاً: أبحثُ عن الإنسان. وطبعت الغرابةُ السيناريو الأخير لسيرة ديوجين الكلبي فهو قد مات حسب بعض الروايات بسبب التسمم الغذائي، كما تقع على مروية أخرى مفادها بأنَّه قد حبس أنفاسه إلى أن فارق الحياة غير أنَّ الرواية الأنسب أكثر من سواها لشخصية ديوجين هي ما تذهب إلى أن الفيلسوف قد مات بعضة كلب كان يطعمه. 

وما طمحَ إليه إيمبيدوقليس بأن يكونَ إلهاً يضعَه في مصافِ فلاسفة الغرابة. يروى بأنَّ هذا الفيلسوف قد سبغَ على نفسه صفاتٍ إلهية وتوهمَ بأن الموت لا يفترس به، لكن تقدمَ به العمرُ وأصبح عجوزاً وأدرك بأنَّه قاب قوسين أو أدنى من الموت لذلك يهربُ إلى جبل إيتنا خلسةً، حيثُ البركان يصدرُ حمماً. وألقى بنفسه في فوهة النار مقتنعاً بأنَّ تواريه التام يؤكدُ ألوهيته. ولكن لسوء حظه قد تم العثور على إحدى فردتي حذائه، وهذا ما أصابَ حلمه بأن يكسبَ مجداً إلوهياً بعد اختفائه في المقتل. يضيف هيراقلطيس بمواقفه الاستعلائية حلقة أخرى إلى المشهد الغرائبي في عالم الفلاسفة فهو رأى بأن أصل الوجود نارُ، مؤمنٌ بأنَّ الإنسان لا ينزل في النهر مرتين، ما يعني أنَّ العالم في حركة دائمة وهو يقول بإحدى شذراته” لا تلوموا إلا قصر نظركم إن ظننتم أنكم تبصرون أرضاً ثابتة في بحر الكون”، غير أنَّ هذا الفيلسوف كان موته مثيراً وسوريالياً، فقد أراد معالجة معاناته من الاستسقاء، إذ لطخ نفسه بروث البقر آملاً بأنه يقضي على رطوبة زائدة حسب مروية أنطوني ماكغاوان، فإذا بزمرة من الكلاب يلتبس عليها الأمر وتلتهم جسده .فحياةُ سقراط أيضاً لا تخلو من الغرابة. كان يمكنُ لفيلسوف أثينا أن يفلت بنفسه من الموت حسبما يذكر ذلك، والكلام على عهدة ماكغاوان لأنَّ القانون اليوناني ينصُ على أنَّ المدان بعدما يصدر الحكم عليه يمكنُ للادعاء والدفاع اقتراح العقوبة. 

إذاً لو كان سقراط قد اختار الغرامة أو النفي، لتفادى الإعدام غير أنَّه اقترح أن يحظى بوجبات مجانية على نفقة الناس مكافأة له على مشروعه التثقيفي. يذكر أنْ سقراط كان يتفلسفُ حتى سوء نصيبه في الزواج، عندما سُئِلَ عن سبب اختياره “زيتيب” شريكة لحياته، مع أنها عرفت بلسانها السليط فأجاب فيلسوف أثينا بأن على مروضي الخيول ترويض أكثر الحيوانات جموحاً.


صك الحرية

تعبرُ سيرة الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس عن التضافر بين المنهاج الفلسفي والتحديات الحياتية، فهو قد ذاق مرارة العبودية، إذ تم سوقه إلى روما، وهناك بيع، غير أن صاحب “المختصر” يكتسب صك الحرية بنبوغه الفلسفي، ويتمكنُ من مواجهة ظروف قاهرة بمناعته النفسية. فكان سيده إيافروديتوس  نكل به وعذبه بطريقة غريبة، حيث وضع رجل الفيلسوف في آلة التدوير مترقباً ردَّ فعله، وما من أبكتوتيوس إلا أن قال ستكسرها. 

وفي ذلك صورة واضحة لتحمل الشدائد والتجلد، وقبله كان الطاغية ديونيسيوس غضبَ على أفلاطون غضباً جنونياً بسبب آرائه الفلسفية والأخلاقية، حتى أنه عرضه في سوق النخاسة للبيع، ولولا انيساريس القوريني الذي افتداه لكان مصير مؤسس الأكاديمية ينتهي إلى العبودية. 

توقع الأطباء بأن الطفل الذي سيؤرخ لاحقاً لمرحلة مفصلية في مسيرة الفلسفة بفتوحاته المعرفية يموتُ مبكراً.

 لأنَّه ورث الشحوب وضيق التنفس من أمه الأمر الذي حدا برنييه ديكارت أن يمضى معظم أوقاته، وهو في الفراش كان منهمكاً على قراءة الأدب الكلاسيكي محاوراً النبلاء الطاعنين في السن وعندما يسافر إلى باريس يستفيد هناك من درايته في الرياضيات ليكسب ربحاً وفيراً في لعبة القمار، وبذلك لم يعد قيد التجريد في تعاطيه مع العلوم والفلسفة. 

أما مواطنه سارتر فكان مغرماً بالرحلات والسفر. ولم يكن محتفظاً بأي شيء من مقتنياته خلال أسفاره، حتى كتبه كان يتخلى عنها وما أراد الاحتفاظ بشيء سوى قلمه وغليونه، لأنه كان متعلقاً بهما وكتب يقول “هما البعيدان في يدي”، ربما يستغربُ المتابعُ بأنَّ شوبنهاور وصل سوء ظنه بالبشر إلى درجةٍ كان يحجز مكانين في المطعم، حتى لا يشاركه أحدٌ في عزلته. إذاً فإن الفلاسفة لهم وجه آخر وهواجس واهتمامات خاصة. 

وما ينطوي عليه سجلهم الفكري يمثلُ جانباً من شخصيتهم تابعة للأهواء والأمزجة. 

وأخيرا نعود إلى نيتشه الذي كان يؤكدُ بأن كل فيلسوف عظيم قد كتب نوعاً من المذكرات اللا إرادية غير الواعية. ويجدر أن يقفل هذا المقال بنهاية غرائبية للفيلسوف خريسيبوس، الذي فارق الحياة إثر اصابته بنوبة هسترية من الضحك ويبدو بأنَّ من الضحك ما يقتل كما الحب.

 ونحن نتحدث عن الغرابة، جديرٌ بنا الإشارة إلى القس الفرنسي “موسليه” وهو قد خدم الأكليروس بالتفاني، لكن عندما توفيَ قد تم اكتشاف مذكراته يعلنُ فيها الإلحاد ويعبر عن تمنياته بأنْ يشنقَ جميع المستكبرين والإقطاعيين على هذه الأرض بأمعاء الكهنة

والزبانية.