عري الذات وبوح السريرة في «أقفاص فارغة»

ثقافة 2023/03/28
...

   دعد ديب  


أقفاص هي هذه الحياة، حبسنا فيها ببيوت مغلقة على علاقات لم نُستشر فيها، ورغم ذلك فهذه الأقفاص تفرغ من أناسها تدريجيًا كما تقفر من معانيها، «أقفاص فارغة»،  لفاطمة قنديل عنوان مركب على درجة عالية من الحرفية في العمل الفائز بجائزة نجيب محفوظ لعام2022» من إصدار الكتب خان لعام 2021،  عنوان أشبه بمسبار يشير إلى فحوى النص في مخاتلة من الكاتبة عندما أردفت في الاستهلال اللاحق «ما لم تكتبه فاطمة قنديل» مما يوحي بسرانية خاصة بينها وبين القارئ، حيث هذا النفي يلعب دورا تأكيديًا مراوغًا، إخفاء لدورها في بيانه وإظهارًا له في أرجوحة المتناقضات التي أجادت اللعب بها، ولربما أرادت بالأقفاص الفارغة تلك  العلاقات التي تكبلنا وتربطنا بها، وهي عملياً فارغة أو يأتي زمن تفرغ  من معناها.يشير النص إلى ما سمي بالكتابة السيرية التي تشمل: )السيرة، السيرة الذاتية، اليوميات، أدب الرحلة، السيرة الروائية، قصيدة النثر الذاتية، المذكرات والاعترافات) فهو يتراوح بين الرواية واليوميات وكتابة السيرة الذاتية بكل ما فيها من انكشاف وتعري كنوع من حضور الذاكرة التي لا يمكن أن تكتب بضمير الغائب كما ردت على ناشر الكتب التجارية، وهي ليست بالضرورة نوع من التوثيق وإنما هي الشفافية في تصوير الانفعالات والمواقف الشخصية بلا ادعاءات النبل الزائف أو الإيثار والتضحية الفائضة عن الضرورة إذ تتكاثف ذاتها مع ذوات الآخرين مزاوجة بين السرد الروائي وسرد سيرتها الذاتية، كأسلوب تجريبي في  محو الحدود بين الأجناس الأدبية في أحد أشكال تجلي الحرية الإبداعية وهروب من التصنيف عبر تهشيم الحبكة والتشظي الزمني أو عدم سير الزمن بشكل خطي  فهي تسلط الضوء على بؤر الذاكرة مقتفية معانيها، فالتذكر مفتاح للكثير من المحطات والأفكار  لتكون صوت الصدق والبساطة في الإضمار والإخفاء، في البوح بضجيج الروح وما يعتمل في الأعماق والأسئلة الجارحة: أبهذه البساطة نستطيع إخراج حياتنا أسرارنا إلى العلن ونجعلها على مرأى من الآخرين، نعم هي تنكأ جراحها الذاتية في كشف عن مواجعها والبؤر المؤلمة في صفحة حياتها في دمج غير ملحوظ بين المتخيل والواقعي، فواقعية مرض أمها والضغوط الاجتماعية المطبقة على النساء عمومًا جرى التقاطها بدقة بالغة ودمجها في النسج السردي للنص، وهي باختصار الحياة الممتدة التي يمكن أن تسير بلا توقف في رصد  وضع النساء بمجتمع ذكوري بأكثر من نموذج (أمها؛ خالتها؛ نفيسة الشغالة؛ الصديقة رئيفة؛ زوجة الأخ) 

فقد رصدت  بدقة التفكك الأسري وكشفت نوازع الأفراد الخفية مما قد يعتبره البعض نوعا من الهتك لأسرار لا يجب الكشف عنها، ولكن حسب رأيها ماذا يكون الأدب إذا لم يكن هتكًا وتمزيقًا لكل ما هو سائد وراسخ، فالأب والأم وبقية الاخوة انتهوا كل في غرفة وكل منهم يأكل بمفرده بإشارة للتفكك الاجتماعي، الذي رافق بيئة الطبقة المتوسطة وانهيارها نتيجة الضغط المعيشي الذي يقودها تدريجيًا إلى أسفل القاع الاجتماعي، فحتى فاطمة الراوية نفسها فكرت بأعمال كثيرة قبل أن يتسنى لها إكمال دراستها الجامعية. 

ببصيرة نافذة استطاعت فاطمة قنديل أن ترى الإنسان في حيرته؛ وضعفه؛ وتوقه؛ وقوته؛ ففي حالة الضعف الإنساني نكون أشخاصا آخرين ظهرت في حالتها باللجوء إلى الله، وأخذها عهدًا على نفسها ألا تقرب الخمر ما دامت والدتها حية في رصد وضعها بما يتعلق بحياتها كإنسانة وعلاقاتها الاجتماعية تقول: «بعد أن ماتت أمي، لم أعد أجلس في الشرفة كثيرًا، وذات صباح فوجئت بالحوض وقد صار مخزنًا لأقفاص دجاج فارغة، حملها أحدهم، كغنيمة، ليخبئها هناك، عشرات من الأقفاص، المكدسة فوق بعضها، احتلت كل المساحات بين الشرفة الصغيرة، وسور البيت، حين رأيتها جن جنوني، وأدركت أن البيت صار مستباحا ً كأنه مهجور، و كأن لا وجود لي فيه»  البيت؛ الدفء؛ الألفة؛ الحب؛ مفاهيم تتسرب من معانيها، فالأحلام المجهضة قدر للجميع: الأب الذي كان يحلم أن يكون مهندسًا والأم التي طمحت أن تكون كاتبة  والابن الأكبر الذي فشل في دراسته، والابن الآخر الذي انكفأ إلى خلاصه الفردي عندما جعلته العلاقات المادية بعيدا عن عائلته وأفكاره وقناعاته

تحمل علبة الشوكولاته ذكرى واهية مفترضة لطيف سعادة حملها المذاق الحلو المميز بالنسبة لطفلة تعبر سنواتها الأولى كمفتاح تتذكر من خلاله ذكرى وذاكرة وأحداث في ما يشبه الزهو بالزمن، الذي قدر أن يؤتى بها إلى البيت بسبب من مكانة الأب المعلم القدير، والحال الذي تراجع إليه، والخجل من سكره وهو الأب المكافح الذي ألقت به البطالة والتقاعد إلى التسكع والنسيان في قنينة مشروب ينسى فيها واقعه وأيام عزه الأب الذي كان مصدر للفخر والتميز بمكانته العلمية تهدى اليه(علبة الشوكولاته ) صار في آخر أيامه السكير الذي يحلب العار لدرجة تتجاهل معرفته في الشارع وهي تمشي مع

أقرانها. العلاقات السامة التي تكدر القلب والأذى الذي يلقاه المرء من المقربين مشهدية ترصدها بوضوح وجرأة: ما معنى أن يتسامح وأن تتغاضى نعم لقد نجحت فاطمة قنديل في تسمية الأمور بمسمياتها، فالخيبة خيبة والجحود جحود والنكران نكران، وهي لم تستثنِ ذاتها، فذكرت مغامرتها بالزواج مرتين من شركاء غير مناسبين، أضافوا رقمًا على مجمل خيباتها المتلاحقة، هي التي اقترنت ولادتها بالموت، موت الجدة التي أخذت اسمها فاطمة الراوية والكاتبة مما يحمل توثيقًا مضمرًا تخاتله الكاتبة بتفاصيل تهم آخرين، ليكتمل المتخيل بالذاتي صراع على مستويين صراعها الداخلي مع أفراد أسرتها وصراعها مع سدنة الفساد في الجامعة، ممثلة بسلطة الجامعة التي منعت تدريسها فيها، ومع ذلك تجاوزت رحلة الفشل بالتفوق، الذي أصرت عليه كوسيلة لإثبات الذات والصمود تجاه المتغيرات العاصفة كإنسانة وامرأة التداعي الحر للأفكار في نسج تاريخ الفرد بعيدًا عن الرواية العامة، ومن هنا جاء تصدع الشخصيات على اثر هزيمة حزيران كإطار خلفي صورت فيه وضع المجتمع ما قبل النكسة وما بعدها، وأثرها في وعي الجيل بين واقع الأمر والأوهام، التي نتخيلها (كنا نلعب “حرب” أيضًا، تكون عمارتنا مرة “مصر” ومرة “إسرائيل” حسب الدور، نهتف، حين نكون مصر: “هنحارب، هنحارب، إسرائيل “الأنارب”، ونختبئ وراء ساتر الطوب، المبنى أمام كل عمارة، لنهاجم “العدو”! كنا نتبادل الأدوار، لأن عمارة إسرائيل لا بد أن تُغلب في المعركة، ويُؤخذ منها الأسرى، لذا قسمنا الهزيمة بالتساوي) 

 تتداخل كل الأمور في اللحظة الروائية عبر السرد العادي لأوجاع بيئة حكايتها، تنطبق على كل أسرة في حالات الاغتراب النفسي والتفكك الأسري، والنهاية بتصفية الحساب مع تاريخها وخروجها الأخير من البيت وما يعنيه من فك الارتباط مع كل ما يجرح ويؤلم في تاريخها، فرضته الحاجة لقدر من القسوة مع الذات كي لا نجتر آلامنا ونبقيها ماثلة أمام أعيننا، وهي بكتابتها عن الجزء المعطوب من الذاكرة، تتخلص من العفن الذي فيها وفق ماعبرت برسالتها لصديقتها رئيفة، الذاكرة ذلك المخرز التي ننوء تحت وطأة وخذاته على أمل أن ننسى فهل

ننسى؟!.