التناصُ في الخطاب

ثقافة 2023/03/28
...

 آدم هودجز

  ترجمة: نجاح الجبيلي


إن العنصر الرئيس في الحياة الاجتماعيَّة هو تواصليَّة الخطاب عبر مختلف سياقات المواقف. فالفاعلون الاجتماعيون لا يصيغون الملفوظات في فراغ؛ ولا «أحداث الكلام» الفرديَّة تقع بمعزل عن بعضها البعض. بالأحرى، وكما يصف مانهايم وتدلوك:»أي خطاب حاضر هو مشبع بأصداء وتلميحات وإعادة صياغات واقتباسات صريحة من خطاب سابق». باختصار، إن الخطاب المنتج في سياق واحد حتماً يرتبط مع الخطاب المنتج في سياقات أخرى. وبينما يتفاعل الفاعلون الاجتماعيون فإنّهم يشرّبون خطابهم بأصوات تدل على عالمهم الاجتماعي.


 ويرتكزون على أجناس راسخة لكي يؤطروا خطابهم، وينهمكون بكلمات تأتي قبلهم ويوجهون إلى استجابات مسبقة. سوف نتناول في هذه الدراسة الطرق التي يؤثر فيها التناص على تحليل الخطاب. ونبدأ بمراجعة الأسس الفلسفية والاصطلاحات المرتبطة بمفهوم التناص، ثم نتقدم لنتحرّى مختلف أوجه تحليل الخطاب التناصي.     


الأسس الفلسفيَّة والتعريفيَّة

 ما هو مركزي في مفهوم التناص هو فكرة «النص». في الاستعمال الشائع فإنَّ «النص» يستحضر صورة كتاب أو وثيقة مكتوبة (مثلاً: رواية، قصيدة، رسالة) - أي المحتوى اللغوي المجموع ككل متماسك يمكن أن ينفصل عن إطار معين وينتقل. هذا الموقع الممتاز الممنوح للغة- بالأخص اللغة المكتوبة- واضح في هذه النظرة. مع ذلك فإنَّ النص يمكن أن يُعرف بصورة أوضح كونه «أي مجموعة متماسكة من العلامات» لكي يمكن أن يتوسّع إلى مجالات الفيلم والفن البصري والموسيقى لكي يتحدث عن أي عمل إبداعي (مثلاً، فيلم أو لوحة أو نغمة موسيقية) يمكن أن يُقرأ من أجل المعنى. لغرض تحليل الخطاب - سواء تم التركيز بصورة محكمة على اللغة قيد الاستعمال (المنطوقة أو المكتوبة) أو توسّع لكي يشمل «كل أشكال النشاط الإنساني السيميائي الدلالي»، فإنَّ النصَّ يمكن أن ينظر إليه كونه «وحدة مجسّمة من الخطاب» يمكن أن ترفع من سياقها الأصلي (يفكك نصّها) وتوضع في إطار جديد تتم فيه إعادة إنشاء نصّها. بهذه الطريقة، يبدو أن أجزاء من الخطاب تأخذ من مكانٍ ما حياة خاصة بها لأنها تتحول إلى نصوص (متضمنة) وتدخل في «تداول» اجتماعي.يرتكز مفهوم التناص على أفكار الفيلسوف الروسي والمنظر الأدبي ميخائيل باختين الذي عمل في أوائل القرن العشرين (جنبًا إلى جنب مع العديد من المعاصرين المعروفين كلهم باسم حلقة باختين). واعترف بأن استخدام اللغة «مليء بإيحاءات حواريَّة». لا يعني باختين بالحوار مجرد أمثلة على الخطاب التي يتم إنشاؤها خارجيًا كحوار. بدلا من ذلك، يرغب في التأكيد على «الحواريَّة الداخليَّة للكلمة» التي تتخلل جميع أشكال الكلام، بما في ذلك الأشكال الخارجيَّة التي يتم إنشاؤها كمونولوج. حتى المونولوجات التقليدية – وكذلك «الكلام الداخلي» في عقل المرء الذي يتموقع في عالم مليء بألفاظ سابقة- ومن ثم فهي منهمكة في حوار ضمني مع ذلك العالم من الخطاب المأهول سابقاً. بعبارة أخرى، وكما يكتب باختين، «في الحياة الواقعية يتحدث الناس أكثر من أيِّ شيء عما يتحدث عنه الآخرون- إنّهم ينقلون ويتذكرون ويزنون ويصدرون الحكم على كلمات الآخرين وآرائهم وتأكيداتهم ومعلوماتهم». ونتيجة لذلك، فإننا باستمرار «نستوعب، ونعيد العمل، وإبراز ما سبقنا وتوقع ما قد يأتي أمامنا في «الروابط اللاحقة من سلسلة تبادل الكلام»، (باختين).

يُعدّ استخدام اللغة، من منظور باختين، في الأساس ظاهرة اجتماعية «كلامنا، أي كل أقوالنا (بما في ذلك الأعمال الإبداعيّة)، متشرّبة بكلمات الآخرين، بدرجات متفاوتة من الغيرية أو درجات متفاوتة من «خاصيتنا»، درجات متفاوتة من الوعي والانفصال»، (باختين). يختلف هذا المنظور بشكل أساسي من النهج الذي يتبناه اللغويون العاملون أولاً في التقليد الذي أسسه فرديناند دي سوسور ولاحقًا ضمن أنموذج تشومسكي، إذ يتم اعتبار مصدر اللغة هو الفرد المتكلم وليس السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه ويعمل ويتفاعل. من وجهة نظر باختين، «المركز المنظم لأي ملفوظ، وتجربة، لا يكمن في الداخل بل في الخارج - أي في البيئة الاجتماعية المحيطة بالكائن الفردي». على الرغم من أن المفهوم الشائع للإبداع اللغوي الذي أعاد توجيهه علماء اللغة ينطوي على قدرة الفرد على إنشاء عدد لانهائي من الملفوظات من عدد محدود من الكلمات، لكن عمليَّاً، تلك الاحتمالات اللانهائية مقيدة اجتماعيا ومحدودة. من منظور باختين، يوجد الإبداع في طرق وافرة تسبق الملفوظات، والأصوات، وأنواع الخطاب التي يتم تخصيصها وإنعاشها.

ربما بسبب هيمنة اللغويات السوسيرية ثم التشومسكية طوال القرن العشرين، وكذلك المشكلات الصحية وسياسة القمع التي واجهها باختين في معظم حياته المهنيَّة، كانت أفكاره محدودة الوصول حتى أواخر الستينيات. ويرجع الفضل في ذلك إلى المنظرة الأدبية جوليا كريستيفا في تقديم أفكاره للجمهور الفرنسي. كما نُشِرت بالإنكليزية ترجمات لكثير من كتاباته في الثمانينيات، إلى جانب الترجمات الإنجليزية لكتابات كريستيفا. ومن ثم، ارتبط مصطلح التناص لأول مرة بكريستيفا، إذ إنها صاغت المصطلح لكي تصف فكرة باختين بأن «أي نص يتكون على شكل فسيفساء من الاقتباسات؛ أي نص هو امتصاص لنص آخر وتحويل له». إنَّ مجاز النسيج مقصود هنا لأنه، كما يشير بارت، «اشتقاقيًا، النص هو نسيج، أو قماش منسوج». بهذه الطريقة، يتم نسج أي نص من قطع الخطاب السابقة التي تم تجميعها معًا في خليط جديد متماسك. كما تصف كرستيفا النص كونه «تبديلاً للنصوص، ومتناصاً».

كانت أفكار حلقة باختين مناسبة بشكل طبيعي لللغويين الاجتماعيين والثقافيين المهتمين بالتضمين الاجتماعي لاستخدام اللغة، وقد تم تطبيق مفهوم التناص على نطاق واسع بين العلماء المهتمين بتحليل الخطاب. بالنظر إلى التركيز الواسع لمحللي الخطاب على ممارسة الخطاب وليس مجرد منتجات هذه الممارسة (أي النصوص)، ظهر مصطلح «الخطابية الداخلية» interdiscursivity أحيانًا بدلاً من ذلك وأحيانًا أخرى كإضافة إلى مصطلح التناص. ومن ثم، من المهم تحديد الخطوط العريضة عن كيفية تقديم هذه المصطلحات في الأدب.تميّز كريستيفا بين محوري التناص - الأفقي والعمودي - الذي يلتقط “الأبعاد أو الإحداثيات الثلاثة للحوار.. فاعل الكتابة والمرسل إليه والنصوص الخارجية”. بالنسبة لكريستيفا، ينطوي المحور الأفقي على علاقة الفاعل مع المرسل إليه بحيث تكون في النصوص المكتوبة “الكلمة في النص تنتمي إلى كل من فاعل الكتابة والمرسل إليه”. هذه هي أنواع الروابط الحوارية التي ناقشها باختين على أنها “روابط في سلسلة مشاركة الكلام” وفسرها في مناقشته للحواريَّة والخطابيَّة.