حينَ تكتبُ اليدُ الناعمةِ عن الحرب والغياب

ثقافة 2023/03/28
...

  رضا المحمداوي


ونحنُ نقرأُ اسم الشاعرة : فليحة حسن، مقترناً بعنوان مجموعتها الشعرية (ولو بعد حين) فإنَّ انطباعاً أوليَّاً سرعان ما يتكوَّنُ لدينا مفادهُ بأننا سنكونُ إزاء عالم المرأة الشعري بمكنوناتهِ وهواجسهِ، وأحلامه، وما يُمكنُ أنْ يتداعى في أذهاننا من أفكار قد يطرحها ويفصح عنها خيال امرأة شاعرة وما تتناولهُ من أفكار وموضوعات ومعانٍ ارتبطتْ بالمرأة الأديبة وما تمَّ التعارف على تسميتهِ بـ(الأدب النسوي)أو ما اصطلح عليه بـ(الجندر(gender  الأدبي المرتبط بالأُنثى وما اقترن به من موضوعات ومعالجات أدبية تخص عالم المرأة السري أو المخبوء أو المسكوت عنهُ، وبكلِّ ما يتصلُ بعالمها ومشاعرها وبيئتها الاجتماعية العامة التي تعيش فيها، وما يمكنُ أنْ تثيرَهُ هذه التسمية أو المصطلح من خصوصية في التناول الشعري بواسطة تلك الأيدي الناعمة ذات الأظافر الطويلة .

ولا تُعنى الشاعرة: فليحة حسن،هنا، بجلب صور الذكورة التقليدية بتسلط المجتمع الأبوي المعروف وقوة الاستلاب التي ينطوي عليها، والتي غالباً ما يتمُّ استحضار هذه الـ(ثيمات) الرئيسة داخل الأدب النسوي بتوجههِ العام، لا بل أنها  تذهب أكثر من هذا الابتعاد عن صور الذكورة حيث تستعير شخصية الرجل كما في قصيدة (من أجل أن لا يذبل ورد الشمال) وهو يضعُ في حقيبتهِ أثواب المرأة وأوراقها وأقلامها وحاجياتها، ويهفو إلى لقائها، لكن الحقيبة كانت محملةً بهم ثقيل، أو أنْ تستحضر صورة الرجل وتخاطبه كما في قصيدة ( صهيل في القلب) وغيرها من القصائد التي حفلتْ بأساليب مخاطبة (المُذكّر - الغائب) وافتقاد حضوره في حياة المرأة وبنبرة عاطفية تملؤها اللوعة والخسران.

لكننا ونحنُ نطالع نصوص المجموعة الصادرة عن منشورات الإتحاد العام للأدباء والكُتِّاب في العراق، والمتكوِّنة من ثلاثين نصاً، نتفاجأ بحضور الحرب الطاغي والمُكثّف في العناوين والموضوعات والمتون فتطالعنا ثريات النصوص البارزة مثل ( أحبكَ والوطن ملوث بالحروب) و(على هامش الحرب) و(كان جندياً) و( الشهيد الطفل) وغيرها... .  

أمّا داخل المتون، وفي البنية العامة للنصوص، فأنَّ الحرب وأجواءَها ونتائجها المأساوية التي أصابتْ الإنسان العراقي بصفة عامة وليس المرأة وحدها على وجه الخصوص باعتبارها بؤرة تتجمع عندها ردود الفعل، أو مركز التفاعل داخل العائلة أو الخلايا المجتمعية، فقد تركتْ - تلك الحرب - آثارها واضحةً وعميقةً في وجدان ذلك الإنسان وحياته ووجوده، وقد امتدَّتْ تأثيرات الحرب إلى مساحات واسعة من تلك النصوص، وغاصتْ عميقاً في بنيتها وأسلوب تقديمها وصيغ تعبيراتها اللغوية وصورها البلاغية، حيث تُبنى القصور بالجماجم وعظام القتلى (أرفلُ بالحزن ممسكاً بدمي / مذ  كان لي والد قد بيع للثكنات.. السواتر) (... نحو الرأس الاتعبهُ الركض في دهاليز الحرب) (في ظل الحرب " المبنية " بين ثنايا العمر) ( من آخر العمر جئتُ لاجمع ما تركته الحروب)( متى ستفارقنا رائحة البسطال).

السمة الغالبة الأخرى على هذه المجموعة والتي قد ترتبط بحضور(ثيمة الحرب) وتمثّلاتها في النصوص تتمثَّل بلوعة الفقدان والغياب، والرثاء وتفقد أسماء الراحلين من العائلة والأصدقاء والمعارف والأب والأخ والأم والصديقة، وتكاد تكون (ثيمة) الغياب،هذه، وتحسّس الفقدان في الحياة واستحضار تلك الشخوص الغائبة، طاغية  في حضورها الفاعل داخل النصوص.

ورغم أنَّ الشاعرة تعرف وجهة أولئك الراحلين لكنَّها ما برحتْ تستذكرهم، وتستحضر ذكراهم فيصبحون بالنسبة لها أشبه بالنافذة التي تطلُّ من خلالها على الحياة والزمن والموجودات، وأن فراقها لهم من خلال تلك الإطلالة قد يهدد بقائها، ويبقى هذا الغياب والفقدان محكوماً بالقدر المكتوب الذي لا فكاك منهُ.

الهَّم الشعري الآخر الذي جسَّدَ حضوراً فاعلاً في نصوص المجموعة هو (الجنوب) بدلالتهِ الحضارية المعروفة، وبواقعه الجغرافي العراقي الممهور بالمعاناة والألم والحرمان، وإشارته الواضحة في الإنتماء، حيث تمَّ ضخ الكثير من المفردات والمعاني والتعابير والعناوين التي تناثرتْ داخل متون النصوص وعناوينها ومنها نص ( الجنوبي)، الذي نَجدُ  فيه صورة الإسراف في الانتماء لذلك (الجنوب).   


الأساليب الشعريَّة 

تعَّدَدَت الاساليب الشعرية التي اعتمدتها الشاعرة في بناء نصوصها من حيث قصر تلك النصوص أو طولها، أو من حيث بنيتها اللغوية الواحدة الكاملة، أو استخدام المقاطع أو الأرقام أو النقاط التي تشبه رؤوس الأقلام في بناء هيكل النص الواحد الذي ينقسم على نفسه، وقد تباينتْ قدرة الشاعرة ومهارتها في استخدام هذه التقنيات والأساليب البنيوية واللغوية داخل بنية النصوص .

لكن أفضل ما تجلّتْ فيه امكانيات الشاعرة وقدرتها في التحكم بعناصر ومكوِّنات نصوصها كان قد ظهر لنا بشكل واضح في استخدام تقنية السرد الشعري في بناء بعض النصوص، وأذكرُ منها على وجه التحديد (مرآةالرؤيا) حيث كَتَبَتْ الشاعرة (بالأمس وكنتُ على سطح المنزل نائمةً/ اقترب الولد المخبول/ تسلق جدار السطح...) ومن خلال استخدام ضمير المتكلم (أنا) مَنَحَتْ الشاعرة ذلك النص حميمية وتعبيراً شعرياً دافقاً، مع ما يظفيه هذا الإسلوب من وضوح وتوصيف للمعنى، وعناية بالمبنى .

وكذلك الحال مع نص( متاهة) حيث تستعين الشاعرة بالمبنى الحكائي لتشييد هيكل نصها:( كان يرسمُ طائرةً / فوق دفتر الحلم / يستل من روحه خيطانها)، وكان يمكن لنص( كان جندياً) أنْ  يستفيد من هذه الإستعارة والتوظيف السردي ليكون أكثر حضوراً وفاعلية، إلاّ أن المتن قد غيبَّ ذلك الجندي ولم يبق لنا منه سوى صورة مشبوحة .

وما عدا هذه النصوص القصيرة وأمثالها ذات المبنى المُحمَّل بالمعنى، فإنَّ الشاعرة تفقد بعض قدرتها التعبيرية وإسلوبها الجمالي في النصوص الطويلة نسبياً، حتى تفقد اللغة عندها  بعض طاقتها التوليدية للمعنى وتصبح عبارة عن استرسال وتراكم لغوي لا يفصح عن معنى وفق صياغات جمالية، وهو ما نجدهُ  ماثلاً  في النصوص التي اعتمدتْ أسلوب الترقيم في بنائها العام وخاصة الترقيم المتداخل مع ترقيم داخلي آخر يتضمنهُ نفس المتن مثل نص (مشاغبات) المتكون من 14 مقطعاً مرقماً  وبداخلهِ ترقيم آخر، فالمقطع رقم(7)، تتفرع منه(7) مقاطع ثانوية فرعية كل مقطع في سطر مُرقّم، والرقم(12) من النص نفسه ينقسم إلى ( 8) مقاطع  بأرقام أو رموز اغريقية، ونص( ومضات) المُتكوِّن من خمسة أرقام( 5،4،3،2،1)  والرقم الاول ينقسم إلى (6) حروف لكلمة ( ومنعنا) وتلي ذلك نقاط كبيرة( 0) على شكل رؤوس أقلام وعددها(5) .

وأجد أنَّ استخدام تقنية الترقيم بهذه الطريقة وتفرعاتها وانقسامها الداخلي قد شتتَّ المعنى وهشَّم الهيكل العام للمبنى، وجعلهُ وحدات بنائية مبعثرة أو متفرقة من الصعب لمِّ شتاتها والخروج منها بمعنى مُحدّد من هذه الطبيعة الزئبقية المتحركة .

ومن بين عناوين النصوص الثلاثين التي ضمتها المجموعة بين دفتيها، لم يكن عنوان المجموعة "ولو بعد حين" واحداً من تلك العناوين، ولم أجد لذلك العنوان الجامع أية دلالة كبيرة أو معنى محدد بحضور فاعل مُسَّتل من ثيمات النصوص أو افكارها ومعانيها بإستثناء  بعض الإشارات المتفرقة بين النصوص، وما يمكن أن يشير إليه العنوان  من ظرف زماني مؤجل بإنتظار ما يُمكنُ أنْ يحصل من فعل أو حدث أو تغيير بعد مرور ذلك الزمن المفتوح غير المُحَدّد.