ربيع رمضان في القشلة

منصة 2023/03/28
...

  بغداد: محمد إسماعيل


نثر الربيع قصاصات ورق، دوّنتها بعد الفطور.. مساء الخميس الماضي.. أول ليالي القشلة الرمضانيَّة، التي تنظمها وزارة الثقافة بالتعاون مع أمانة بغداد وصندوق تمكين ورابطة المصارف الأهلية العراقية. جمعت الأوراق واحدة.. واحدة؛ لأحرّرها؛ ففاحت بركة رمضان وعطر الربيع.


ورقة أولى.. قبل القشلة 

وصلت في السابعة مساءً، مبكراً بساعتين عن موعد افتتاح فعاليات اليوم الأول من ليالي رمضان التي ستمتد طيلة الشهر الفضيل.

مرَّ طفل صائحا: "شاي أبو الهيل.. حار وطيب" وسط محلات القرطاسية وبسطات الأقلام والدفاتر والأدوات المكتبيَّة ولعب الأطفال، والدولمة، والجبس، والعصائر.. قطع فاكهة تدور بتسارع في خلاطات تحيلها شراباً سائغاً وقطع زينة، وقهوة، وشاي، ودوندرمة، وفخاريات، ومخرمات، وحلي كاذبة.. شبه ومسبحات وعطور تفوح بخوراً غازياً يملأ الفضاء، تحت شناشيل مضاءة بأنوار نسجت بصنارة خيال هندسي مبدع، ملء شارع المتنبي المفضي الى 

القشلة.

كتب على الأرصفة وبلياتشو بثياب المهرجين يمازح المارة، بورك وكيك.. والكاتب جاسم الصغير، يتوصل إلى نحت "مساء رومانسي" واصفاً اللحظة: "أجد في كلمة مساء رومانسي.. حقيقة بمعنى الكلمة"، مؤكداً إنه: جمال بغداد والإنسان العراقي.. "اللهم ديم هذه النعمة علينا".

اثنان يتشاجران بشأن مكان استحوذ عليه أحدهما قبل الآخر: "تفتيحة رزق".


ورقة ثانية.. قبل الدخول 

درت حول القشلة، واجداً رسامين متجولين يخطون الوجوه بالفحم مقابل خمسة آلاف، وإذا أعطاهم الزبون ثلاثة آلاف لا يرفضون، بل يتقبلون خمس دولارات من أجنبي!

سيج تمثال المتنبي للفنان محمد غني حكمت، بإعلان ضوئي: "رمضان مبارك" وتحت جناح أبي الشعراء.. على شاطئ دجلة، غنى فلاح البغدادي: "خدري الجاي خدري.. إعيوني إلمن أخدره" بتسارع ملحنها ومطربها الأصلي مسعود العمارتلي، في العشرينيات، وليس ببطء صياغة روحي الخماش لفرقة الإنشاد في السبعينيات.. تتنحى على بعد شمرة عصا شجرة ميلاد عملاقة كتب عليها ضوئياً: "رمضان كريم.. 2023" والأجواء ساهرة حتى

 السحور. 

قال الفنان الفوتوغرافي حيدر حبه، إنَّ "الأجواء رمضانيَّة حلوة، بعد الغروب كان شارع المتنبي وسوق السراي، والقشلة، والبيت البغدادي، ومحيطها.. قفر، الآن حيوية وعائلات تمرح ولمة أصدقاء".

أكد خاله أحمد حبه، وأنه "اليوم قدم من سويسرا.. خصيصاً من أجل هذه الأجواء التي لا مثيل لها في العالم".


ورقة ثالثة.. سطح القمر 

نصبت شركة كورك مسرحاً، لتقدم عليه.. طوال ثلاثين يوم الشهر المبارك: أمسيات غنائيّة وشعريّة وموسيقية ومسابقات "وجالغي" واكتشاف مواهب النجوم وتوزيع جوائز و "شرائح هواتف نقالة".. وعلى بعد بضعة أمتار.. اقترابا من الشاطئ، نصب شاب مرصداً، يرى الراغبون تفاصيل فضائيّة دقيقة، أفلحت من خلاله برؤية صخرة ملقاة بإهمال على سطح القمر!

وجدت القمر مبقع بندوب تجعله غير صالح للتغزل بالحبيبة، بل لشتم الأعداء واستفزاز المبغضين.. فيما مرت جوقة صبايا وشباب، يهزجون: "رمضان هل إهلاله".

الشوارع المحيطة بالقشلة، تسقفها شبكات ضوء ذات تشكيلات جماليّة متقنة البهجة.. يافعون يقطعون الطريق على قطة؛ فتراوغهم فالتة من حصارهم تغيب في ظلام الأزقة الجانبيّة برشاقة.

غرّد المطرب فالح بعذوبة شجية: "ردتك تمر ضيف.. وتسكت اليحجون.. ردتك تمر ضيف"، متوجهاً إلى "الصباح"، بالقول: "هذا نوع من البوب آرت النخبوي".. وعلى مسرح "كورك" مربعات بغدادية.

بالغت مجموعة حماية أمين بغداد عمار موسى، بتحوطات لا موجب لها، مهددين حتى من لم يقترب.. واقفاً بحاله.. لا بيها ولا عليها: "والله اليروح يم الأمين نبعده من القشلة كلها"! وقد ناداني مدير عام إعلام الأمانة محمد الربيعي؛ ليحدثني بشأن مهني يتعلق بالمناسبة.. دفعوني قبل أن يتم كلامه!


ورقة رابعة.. رقعة شطرنج

أشرق في قلب القشلة من الداخل، مسرح ذو خلفية بيضاء سكبت عليها أضواء ذهبيّة، فرأيت طيفاً من أحلام الجنة يتجلى.

لفت السفير الليبي في بغداد الصيد علي الصيد: "تشرفنا بزيارة معلم بغدادي أصيل، نشارك الشعب العراقي الشقيق بركات الشهر الفضيل وأفراحه". وأضاف: إطلعنا على موروث منوّع في أجواء ربيعية جميلة.. سعيد.. أنا وأسرتي بين الناس. 

نوّه مدير مدرسة الموسيقى والباليه حسين فجر إلى أن الأجواء معطرة ببركة رمضان.. فرح يشمل أركان القشلة ومحيطها، يعيد لبغداد الزاهرة ألقها الحضاري، متابعاً أن "المدرسة ستحيي يوماً كاملاً يتضمن موسيقى شرقية وغربية وباليه وفنونا شعبية".

وأضافت رئيسة قسم الباليه: سنقدم عروضاً تتضمن رقصات باليه متنوعة، منها "بحيرة البجع" و"الجميلة النائمة" و"دون كيشوت" وأداءات جماعيَّة.

ثمة بازار جانبي يتمفصل بين جناحين تفصلهما ساعة القشلة.. سلسلة أكشاك وقواطع وبسطات متجاورة: مخرمات، وصور، وخط عربي، وزخرفة إسلامية، وحلي كاذبة، ويا نصيب، وعطور، وصناعات يدوية، و"جرب حظك" ومسبحات، وإكسسوار نسائي، وورود، وكتب وتماثيل.

ساعة القشة نداء عفوي من الأرض إلى نقطة تلاشي رأسها منغرزاً في الظلام، وعند قاعدتها تلتقط الصبايا والشباب صوراً متخاطرين بمشيتهم ليواصلوا جولة التصوير عند السياج، حيث حافة النهر، وعند إعلان ضوئي مهول لعلم العراق.. بعض الصور تلتقط في غفلة من عيون المارة، عند الزوايا والأركان المعتمة!

قابلنا الروائي صادق الجمل، عند رقعة شطرنج كبيرة، صُفت عليها أحجار مهولة في أحد حدائق القشلة، مشيراً الى أن "أول تباشير مطلع رمضان تلوح بالمحبة والرفاه للعائلات التي ترتاد ليالي القشلة تستمتع بوقتها وتعود آمنة".

نحت الفنان العراقي المغترب فهد الصالح، كوخاً من أقفاص دجاج، يتوسط إحدى الحدائق في متنزه القشلة. وبيّنت الإعلامية الأمريكية من أصل عراقي إقبال الخالدي، أن "المكان جميل.. والقائمون عليه حققوا منجزاً شعبياً يصب في الإيمان بالله والولاء للوطن وخدمة الناس"، موضحة: إحساس جميل يشدني إلى هذا المكان في هذه اللحظة".

 جالستُ إقبال وانضم إلينا الشاعر جمال جاسم أمين الذي أبدى سعادة غامرة، وتفاؤلاً بجلي القلوب والانتماء للأحاسيس التي يبعثها رمضان المبارك، فضلاً عن التدفق الحضاري الساري في نبض الليل وهو يطرز الأسماع والأبصار بالرفاه الفاعل.. المؤثر.

ناب وكيل وزارة الثقافة د. عماد جاسم، عن الوزير، ذاكراً، أن "منهاج هذا الكرنفال يمتد لثلاثين يوماً، تقدم في أماسيها فناً هادفاً.. تلك الوجوه المشرقة التي تقدم فناً يليق بالثقافة العراقية، فناً ذا محتوى هادف بدل المحتوى 

الهابط".