انطاكية ... مدينة الصمود أمام الزلازل

بانوراما 2023/03/28
...

  ساره الديب

  ترجمة: بهاء سلمان

منذ وقوع الزلزال المدمّر يوم السادس من شباط الماضي، يقيم {محمت عصمت} داخل أطلال المسجد التاريخي الأكثر شعبية لمدينة انطاكية التركية، وهو المعلم المعروف للمدينة المدمرة والتي حظيت بشهرة كبيرة على مدى آلاف السنين بوصفها ملتقى الحضارات، ويجلّها كل من المسيحيين والمسلمين واليهود.

واتخذ الرجل البالغ من العمر 74 عاما من (مسجد حبيب النجار) ملاذا له، بعدما قتل زلزال بقوة 8 درجات تقريبا عشرات آلاف الناس في تركيا وسوريا. وهو ينام ويصلي تحت بضعة أقواس بقيت صامدة، راثيا مستقبل مدينة اشتهرت بماضيها. كان دمار انطاكية شاملا تقريبا، فجزء كبير منها عبارة عن أنقاض؛ وما بقي فليس آمنا بالمرة للعيش فيه، ليغادر غالبية الناس المدينة.

تلا الزلزال كثير من الهزات المتفاوتة الشدة، بينها هزة ضربت مركز محافظة هاتاي بقوة تزيد عن ست درجات، حيث تقع انطاكية، بعد اسبوعين من الزلزال الأول، لتقتل وتصيب الناس مجددا، ولتنهار مبان أخرى، ويعلق الكثيرون تحت الركام. يقول عصمت، وهو يتدفأ على خشب محترق، مشيرا إلى حطام المسجد: “من الممكن إعادة بنائه، غير أنه لن يكون مثل القديم، مضيفا: “المسجد القديم ذهب، فقط الاسم يبقى.”

عراقة المنطقة

انطاكية، المعروفة باسم Antoich في العصور القديمة، كانت قد تعرّضت للدمار عدة مرات بسبب الزلازل وأعيد بناؤها عبر التاريخ؛ بيد أن الناس يخشون من أن هويتها التاريخية الفريدة من نوعها ربما لن يتم استعادتها مطلقا، فالدمار هائل جدا، ويقولون إن الحكومة لا تولي هذه المنطقة الكثير من الاهتمام.

انطاكية، المبنية سنة 300 قبل الميلاد من قبل الإسكندر الأكبر ضمن وادي نهر العاصي، كانت إحدى أكبر مدن العالم الأغريقي الروماني، منافسة لمدينتي الاسكندرية والقسطنطينية. ويقال إن القديسين بطرس وبولص قد أسسا هنا أحد أقدم التجمّعات الكنسية المسيحية، وهنا تم إستخدام كلمة “مسيحي” للمرة الأولى، لتغري المدينة لاحقا الغزاة من المسلمين والصليبيين. كما يعد اختلاط المعتقدات الدينية جزءا من شخصية المدينة.

تشير قصة في القرآن الكريم إلى أن ثلاثة مرسلين قدموا لإحدى البلدات، حاثين أفرادها المرتكبين للآثام بإتباع كلمة الله. وأن الناس رفضوا ذلك، لتواجه المدينة عاصفة هائلة. لم يذكر القرآن اسم البلدة، لكن الكثير من القصص تشير إلى أنها انطاكية القديمة. ويرى عصمت درسا من الدمار الحالي، ويقول: “كل الأديان موجودة هنا، كنا جميعا نعيش بشكل طيّب، ثم تغلغلت السياسة وساد النفاق والخلافات.. فالناس لم يتوافقوا، وينهب بعضهم بعضا، والله يعاقبهم.”

ومن الممكن حاليا الوصول إلى المسجد فقط من خلال تسلّق متعب فوق ركام من الكونكريت والحجارة القديمة التي كانت سابقا تشكل ما يعرف بانطاكية القديمة. يرسم هذا المسجد خط الفترات التاريخية المتعاقبة للمدينة، فالموقع أساسا ظهر كمعبد وثني، ومن ثم صار كنيسة، قبل أن ينتهي به المطاف أخيرا إلى مسجد بني في القرن الثالث عشر. ودمر المسجد زلزال سنة 1853 الذي ضرب المدينة، وأعاد العثمانيون بناءه بعد أربع سنوات.


قصص اسطورية

حتى الأساطير المحيطة بحبيب النجار، الذي يحمل المسجد اسمه، تتشابك مع معتقدات دينية متعددة. يروي عصمت واحدة من القصص المعروفة: كان حبيب من سكنة انطاكية القديمة الذي حث الناس على الإيمان بما أتى به رسل الله المذكورين في القرآن، لكنهم قطعوا رأسه، وتدحّرج الرأس نزولا من الجبل إلى الموقع الذي يقوم فيه المسجد حاليا. وتشير نسخة أخرى من القصة إلى أن حبيب كان مؤمنا بالسيّد المسيح، حيث قام تلاميذه بشفاء ولده من مرض الجذام، وقتل بسبب تبشيره بالديانة المسيحية جديدة العهد.

كانت انطاكية المعاصرة بمثابة ظل للمدينة القديمة. وخلال السنوات الأخيرة، شهدت انحدارا اقتصاديا حادا وزيادة متصاعدة في الهجرة إلى أوروبا. وتصاعد التوتر بين السكان المحليين المتقلصة أعدادهم، والمتضمّنة للمسيحيين والطائفة العلوية، وبين الأعداد المتزايدة للسوريين الفارين من الحرب. ويشتكي بعض السكان من إهمال الحكومة المركزية المنشغلة بمساعدة محافظات أخرى تملك فيها قاعدة انتخابية أقوى. ومع أدلة قليلة، يتّهم المحليون اللاجئين السوريين بسرقة المتاجر، والحكومة بالتهاون في مسؤوليتها تجاه المصيبة. ويساور الكثيرون القلق من احتمال مغادرة المزيد من الناس للمدينة إذا لم تتم إعادة بنائها بسرعة.

وبوجه الانتقاد المتصاعد من عدة مدن ضربتها الزلازل، أقرّ الرئيس التركي ومسوؤلون كبار آخرين بتأخّر الاستجابة للحدث الكارثي، ولم يذكر أي أحد ويلات انطاكية بشكل محدد. “ربما بعد عدة أسابيع من الآن، سنباشر بأعمال الترميم أو التنظيم،” هكذا قال “يحيى كوسكون”، نائب مدير المتاحف والإرث الثقافي التركي، حول الدمار الذي لحق بمعالم المدينة.

أما “جان اسطيفان”، صائغ الفضة وأحد المسيحيين القلة القاطنين في المدينة، فيقول: “دمار انطاكية هو خسارة للانسانية. نحن ما زلنا نرغب بالعيش هنا، وليس لدينا أية نية للمغادرة.” وتعرّضت كنيسة انطاكية اليونانية للارثذوكس للدمار بفعل الزلزال الأخير، والتي كانت مقرا لبابا الكنيسة الاغريقية الارثذوكسية لغاية القرن الرابع عشر، بعدما سويت بالأرض إثر زلزال العام 1872، لكن أعيد بناؤها لاحقا. “لقد تم محو التاريخ مجددا،” هكذا يقول “فادي هوريجيل”، رئيس مجلس مدراء مؤسسة الكنيسة الارثذوكسية اليونانية لانطاكية.


مناظر مرعبة

وانّعزلت المساجد القديمة بفعل جبال من الركام، أما السوق الشعبي، فيجلس وسط الأنقاض، وانهارت المباني الواقعة على شارع كورتولوس، والذي يقال عنه أنه أول شارع تمت إنارته في العالم حيث استخدمت المشاعل لإنارته في العصور الرومانية؛ كما تضررت أجزاء من متحف المدينة. أما خارجها، فقد كان جبل ستريوس يحمي واحدة من أوائل الكنائس، هي كنيسة القديس بيير، التي شيّدت داخل كهف وسط الجبل، وتضم مقاطع يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي؛ وتعرّضت السلالم المؤدية إليه للضرر. كما حصلت تشققات في جدران الحي اليهودي لانطاكية، وهي موطن لمنطقة عمرها 2500 سنة. ولم ينج رئيس الطائفة اليهودية وزوجته من الزلزال، وتم نقل 12 فردا منهم ومخطوطات من التوراة مؤقتا إلى اسطنبول، بحسب الكاهن “ميندي تشيتريك”، رئيس مجلس تحالف الكهنة اليهود في الدول الاسلامية.

ويبدو أن العديد من السكان يتقبلون فكرة أن مصير المدينة هو العودة من الكارثة. يقول “بولنت سيفسيفلي”، الذي ماتت والدته بسبب الزلزال، وتطلب الأمر منه اسبوعا من الحفر لإخراج جثتها من الأنقاض: “بعد سبع كوارث، أعاد الناس بناء انطاكية وبث الحياة فيها مجددا. وهذه هي المرة الثامنة، وبمشيئة الله.. سنعيش فيها مرة أخرى، بأي صيغة كانت، وستبقى المدينة نابضة بالحياة. فالموت أمر لا يمكن الفرار منه، ونحن سنموت وتأتي أجيال جديدة بعدنا. وانطاكية اليوم هي نحن، وغدا لأجيالنا القادمة” قالها التركي المنكوب، والدموع تخنق كلماته.

وكالة اسيوشيتد 

برس الاخبارية الاميركية