أمركة عرقنة.. حين يقدّم الجمال خطابه السياسي

ثقافة 2023/03/29
...

البصرة: صفاء ذياب



حينما تدخل إلى قاعة جمعية الفنانين التشكيلين في مدينة البصرة، ستفاجأ بعالمين مختلفين، متناقضين، يطرحان أفكاهما بتقنيات ومواد غريبه، أعمال ليست رسماً ولا نحتاً، بل تشكل فضاءات مغايرة.

وهو ما طرحه الفنانان البصريان ياسين وامي وهاشم تايه في معرضهما المشترك (أمركة- عرقنة)، وكأنهما يريدان أن يعيدا إنتاج ما حدث قبل عشرين عاماً، ومع قرب الذكرى العشرين لدخول القوّات الأميركية وإسقاط النظام البائد.

لم يقدّم الفنانات مئات الأعمال الفنية، بل لم تتجاوز أعمال وامي أكثر من أربعة، في حين كان عمل هاشم تايه واحداً، لكنه أخذ فضاء غرفة كاملة، بجدرانها وباحتها، وكأنها سفينة نوح تريد أن تصل بنا إلى برِّ الأمان.

وعلى الرغم من العمل المنعزل لكل فنّان في قسمه الخاص، غير أن سفينة هاشم تايه لا تكتمل إلى بحمامة ياسين وامي في الجانب الآخر، الباحثة عن عشبة تعيطها الأمان ليباس الأرض، حتى تحطّ تلك السفينة.


 أمركة

مع كل معرض يقدّمه الفنان ياسين وامي، يفاجئ متابعيه بأعمال مغايرة عمّا قدّمه في معرض سابق، وهذا حسب ما يراه هو (يجب أن أفاجأ أنا حينما أدخل للصالة قبل الجمهور)، وهو ما يبحث عنه دائماً. أما عن معرضه هذا وسبب اختيار هذا الاسم له، يبيّن وامي في حديث خاص لصحيفتنا أنَّ العشرين سنة الماضية من تاريخنا وأعمارنا التي أسس لها الأمريكان جديرة بالمحاسبة والمكاشفة والإدانة، “بالنسبة لي لا يرتبط الموضوع بالتجاذبات السياسية ولا أقف عند توصيف محدّد لجهة ما في تعريفها لما جرى، الأهم من هذا كلّه الخلاصات التي آلت إليها حياتنا وتحديد المسؤول الأول عنها، وبالتالي فإنَّ الأمركة مصطلح ليس بجديد وله أدواته السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي العراق كانت الأمركة مشروعاً للتفتيت والتهشيم المنظّم”.

وفي حديثه عن الشرط الجمالي مقابل السياسي، يشير وامي إلى أن الشرط الأساسي للفن هو الجمال، الموضوعات السياسية أو غيرها ثانوية بالنسبة للخطاب الجمالي وأولوياته، لكنّها تقدّم أحياناً تحفيزاً لتعرّف الفن واستقطاب جمهور أوسع للتفاعل الجمالي، ولا يخفى أن الموضوعات السياسية كانت منذ القدم مبرّرات لتقديم فن عظيم والشواهد على ذلك كثيرة.

أما عن التقنيات التي اشتغل عليها وامي في معرضه هذا، فيعتقد أنَّ الفن اليوم يمتلك المساحة كلّها والحرية المطلقة في استلهام وتوظيف كلّ ما متاح في بيئة العمل الفني شرط أن يمتلك الفنان الخبرة اللازمة في ماهية الشكل الحداثي المعاصر والوعي الموسيقي في تأليف المتنافر من الخامات والسطوح وعلى الفنان أن يفيد من ممكنات الصناعة والمكننة والتقنيات الحديثة في إثراء العمل الفني وحيويته.

 

عرقنة

على الجانب الآخر يقف الفنان هاشم تايه الذي يقول إنَّ عنوان المعرض يأتي كإشارة للفعل المشترك والمتبادل الفظيع الذي شارك فيه أميركان وعراقيون في قلب موازين البلد، فمثلما نحن ندين الأميركان على ما فعلوه في بلدنا، عقب إسقاط النظام البائد، فقد ساعدهم عراقيون في هذا الخراب، فنتجت عنه تداعيات شوّهت الحياة فاندثرت وعمّها الفساد والعبث بكلِّ شيء. أمركة عرقنة هو إضاءة لما حدث خلال السنوات السابقة.

وفي جواب لتساؤلنا عن سبب ذهاب الفنان لما هو سياسي، يرى تايه أنَّ السياسة مؤثّر قوي في الحياة، لا يستطيع الفنان تجاوزه، ومن ثمَّ فالفنان حينما يتناول أيّة موضوعة حتَّى وإن كانت تشي بجانب سياسي، إلَّا أنَّ عمله يحتكم إلى معايير جمالية وفنية، فأعمالنا ليست مباشرة، بل تشكّلت ضمن معايير فنية، وليست معايير سياسية مباشرة. فالخطاب لم يكن مباشراً، ومن ثمَّ فإنَّ الفن السياسي فنٌّ منتشر وله آلياته وتقنياته وخطاباته التي تقترب من الجمالي كثيراً، وتبتعد عنه في بعض الأحيان تجاه المباشرة، وهذا يعتمد على قدرات الفنان ومهاراته في تكييف العمل وإعطائه بعداً جمالياً يطغى على الموضوع المباشر.

أما عن تقسيم المعرض، بين أمركة وعرقنة، والأفكار التي أنتجت هذا العمل المشترك، يوضّح تايه أنَّ الأمر حدث بالصدفة، فقد بدأت أعمل على تشكّل الإنسان العراقي والتحوّلات التي طرأت عليه خلال العقدين الماضيين، ومن ثمَّ كان عملي هذا امتداداً لأعمال سابقة كان همّها الإنسان بالدرجة الأساس، ولم أطلع على الأعمال التي أنجزها الفنان ياسين وامي خلال المدّة الماضية، غير أنَّ تواصلنا ما قبل المعرض كشف لنا تناقضات كثيرة يمكن جمعها في عمل واحد. فالفنان ياسين وامي قرّر منذ البداية أن يقيم معرضاً يسمّيه (أمركة)، في إيحاء للدخول الأمريكي إلى العراق، وكيفية قلب مفاهيم الحب والتعايش والألفة داخل المجتمع العراقي، وبالتالي وجدت ما أقوم به أنا من جانبي أنّي أقدّم تحوّلات العراقي من الداخل وليس سياسياً، لهذا كان اجتماع أعمالي وأعماله بوصفهما خطاباً واحداً ذا شقّين، لكنّهما يصبّان في منبع واحد، وهو الإنسان وتحوّلاته، كلٌّ حسب وجهة نظره.

الفنان هاشم تايه قدّم خلال السنوات السابقة أكثر من معرض من مواد النفايات والمهمل والهش، مشكلاً بذلك خطاباً فنيّاً وجماليّاً بشكل مغاير، فيقول في هذا أنه منذ سنوات طويلة يعمل على المهمل والبسيط من المواد، لأنّها مألوفة ومرمية حولنا في كلِّ مكان، لكنَّ الناس لا تراها، بل ترميها بعد الانتهاء منها، مثل ورق الجرائد، والعيدان المكسورة، وعلب الماء والعصائر، وغيرها من النفايات التي نستغني عنها كلَّ يوم، “غير أنَّني أحاول إعادة إنتاجها بطرائق فنّية يمكن أن يعيدها إلى الواجهة لتقدّم بشكل جمالي، وبدلاً من أن تكون هذه المواد غريبة أو عدوانية بتعبير فلسفي، تتحوّل إلى مواد أليفة، وهو ما يمكن أن نسمّيه أحياناً (جماليات القبح)، وهي رؤية فنية لأشياء نراها قبيحة، لكنّها في الوقت نفسه لا تخلو من الجمال في جوانب عدّة”.

أما عن اختلاف ما قدّمه الآن عن أعماله السابقة، فيؤكّد أنّها محاولة للذهاب بهذا الموضوع إلى أقصى الممكنات التي يمكن أن يعطيها أو يمنحها للفنان.

غير أن المختلف في أعمال تايه، أنه في معارضه السابقة كان منغمساً بالتجريد بشكل واضح، وفي معرضه هذا اقترب أكثر من التجسيد الذي يعيد تشكيل الإنسان بشكل تجريدي، فالإنسان لديه بأبعاد غير طبيعية، في بعضها رأس مقطوع، أو رأس بمرآة أو يد بمنجل أو قدم بمحراث وهكذا يعيد إنتاج الجسد بتصورات لا يمكن التنبّؤ بها، ويبين في حديثه معنا أنَّ هذه مخلوقات فنّية، وليست مخلوقات تمثيلية تطابق التمثيلات الموجودة في الواقع، بل أعمال فنية يمكن أن تتعرّض للانحراف والتشويه وتقديم الجسم البشري بأشكال عدّة في سبيل الوصول إلى ما هو جمالي. ومن ثمَّ فإن التشويه في الفن لا يخلو من الجانب الجمالي، مثلما نبحث عن القبح في العمل الفني الذي غالباً ما يعوّم، فبحثنا عن مواطن الجمال والقبح نسبي، وليس فيه قوانين صارمة تشير إلى ما هو جميل وما هو قبيح.