القطيعة في المجايلة الشعرية

ثقافة 2023/03/29
...

د. نادية هناوي 



القول بالقطيعة شعار رفعه الشعراء القائلون بالتجييل العقدي، ولكن درجة التركيز عليه تفاوتت من واحد إلى آخر، ولعل أوضح نموذج لذلك يتمثل في كتاب (الموجة الجديدة: نماذج من الشعر العراقي الحديث  1975 ـ 1986) لزاهر الجيزاني الذي افترض في العقد الثامن/ السبعيني جيلا جديدا نهض من الرماد لا سابق له يستند إليه، ولا لاحق له يؤثر فيه. إنه (الجيل الشعري الجديد الذي أصبح له عمر وتاريخ من النصوص الشعرية الغزيرة والمتنوعة الرديئة والجيدة المتجاوزة والمراوحة وبعد هذا العقد من السنين تقدمت أصوات وتراجعت أخرى وأضيفت أصوات جديدة ) ص5.
وإذ ليس منطقيا أن ينهض جيل بلا سابق إنذار وحده كالمارد، فإن الجيزاني يهيئ الأذهان للطريقة التي تم بها هذا النهوض الفنتازي قائلا: ( هذه البانوراما العريضة لشعر اليوم تكشف عن المدى الذي قطعته حركة الشعر الحديث في العراق لجيل محدد وفترة زمنية محدودة فالجيل هو جيل السبعينيات والفترة الممتدة من أواسط السبعينيات إلى أواسط الثمانينيات مع الانتباه إلى بعض الأصوات الشابة التي ظهرت مؤخرا وهي تحمل بذرة التفاؤل والمواكبة من أجل حضور شعري مستقبلا.) ص6.

 وليس من دافع وراء هذه الحماسة في استنهاض المجايلة سوى أن الكاتب لا يعد نفسه واحداً من هؤلاء الشعراء فحسب، بل هو المدافع عنهم والذائد عن حاضرهم ومستقبلهم، وله اليد الطولى في إثبات حقهم بين الأجيال التي لا شأن لها يقارن بشأن الشباب لأن مدة نفاذها انتهت وصلاحيتها للبقاء ذوت واضمحلت. ومفردة الشباب تتكرر عنده وكأنها وصفة سحرية لنهوض الموهبة وكأن من لم يشهد نهوضا للموهبة في شبابه فلا نهوض إبداعيا له في كهولة أو طفولة. وهذا التصور البايولوجي لقول الشعر على فكاهيته، هو غير منطقي لأن الابداع ليس له عمر محدد ولو كان صحيحا لما بدأ تولستوي تجربته الروائية في سن الخمسين، ولما ظل أدونيس يقول الشعر وهو في التسعين، ولما كتب السياب هذا المنجز الكبير وعمره لم يتجاوز الأربعين. 

ويبدو أن تأثر الشعراء بالتجييل العقدي دفعهم إلى سلوك هذا المنحى غير الطبيعي في مقاطعة شعراء قبلهم مع أنهم يسيرون على غرار ما ساروا عليه، وها قد تولدت عن موجة سامي مهدي الصاخبة موجة الجيزاني الجديدة، وتساءل هؤلاء الشعراء أو هذا الجيل، هل يتعمد هذه الأحلام ؟. 

وهذا ما يدركه الجيزاني نفسه لكنه يبرر القول بالقطيعة متحدثا بضمير الجماعة أي بالنيابة عن ( جيله!!) قائلا: ( قد لا نعيه إطلاقا وحتى في حالة وعينا له ننكره ونرفضه وما دمنا غير متعمدين هذا النمط من الكتابة فلا نجد تفسيرا غيره فهناك استبدال واضح للمكان بالحلم واستبدال المراقبة وعمل الحواس بالمخيلة) ص10. أما كيف أثبت أنهم جيل وحدهم، فأولا بالقول (نحن شعراء قصيدة النثر ) وثانيا بجمع مختارات لشعرهم (السبعيني) ( الكتاب مختارات شعرية لأصوات شابة جديدة ظهرت منذ سنوات قليلة) ووضع الجيزاني نصه أول النصوص بوصفه المتحدث عن الجيل والناطق باسمهم. وتعود النصوص التي بعده إلى مجموعة شعراء وهم (سلام كاظم وخزعل الماجدي ورعد عبد القادر وكمال سبتي وفاروق يوسف) ولا وجود لشاعرة بينهم. ونتساءل إذا كان هو وأقرأنه (الشباب) يشكلون (جيلا) عمره عشر سنوات فهل ظلوا شبابا بعد انتهاء العقد يقولون الشعر أو صاروا كهولا أو شيوخا فتركوا الشعر لأن قطار العمر مر وأخذهم معه؟!.

إن وبال هذه القطيعة التي تأخذ اسم الموجة وخيم، لا على الشعرية وحدها، بل على النقد الأدبي أيضا، لبطلان فنية معيار الزمان العقدي ولأن الاستمرار في الخطأ ومحاولة مناكدة السابق والتميز على اللاحق أفضت إلى شيوع مقولة ( الشعراء الشباب ) وفتحت منتديات ومهرجانات باسم الشعراء الشباب. وهذا ما يتعارض مع قانون الإبداع الذي لا عمر له ولا سن ولا زمان ولا مكان، ولكن له آثارا تتضح في النصوص وليس في قائليها .. وما شأننا بشاعر مخضرم أو مخمور أو صعلوك أو صريع أو مخبول لكن شأننا بشعره وجماليات شاعريته!. 

وما عرف تاريخ الأدب الأجيال إلا لأنه يريد للإبداع أن يتطور والزمان الذي حدوده القرن أو نصفه وربما ربعه معيار من معايير هذا التطور، وحال الأدب الزماني ليس كحال الإنسان وإنما حاله كحال المجتمعات التي ما نشأت وحدها ــ كما يقول كلود ليفي شتراوس ــ وإنما ( استعملت بدرجة متفاوتة زمنا ماضيا كان بالنسبة لبعضها زمنا ضائعا، وإن بعضها كان مستعجلا في حين أن البعض الآخر كان يعبث طوال الطريق وهكذا نتوصل إلى التمييز بين نوعين من التاريخ هما تاريخ مضطرد اكتسابي يكدس الاكتشافات والاختراعات ليبني حضارات عظيمة، وتاريخ آخر ربما كان بالحيوية ذاتها وواضعا قيد العمل طاقات مماثلة ولكن تنقصه موهبة التركيب التي تميز بها الأول) ( كتابه: العرق والتاريخ، ترجمة سليم حداد، ص23ـ24)