الفلاسفة لا يقعون في الحبّ

ثقافة 2023/03/29
...

وارد بدر السالم



هل تجتمع الفلسفة والحب؟

هناك فكرةٌ سائدةٌ، مجتمعيَّة على الأغلب، بأنَّ الاثنين لا يجتمعان: الفلسفة والحب. وليس هناك من تسبيب لهذه الأفكار، سوى أنَّ النظرة العامّة على الفلاسفة، بأنهم لا يقعون في الحبِّ، بسبب انشغالاتهم بتفسير الكون والحياة والإنسان ومشكلاته ورغباته العقليَّة، وتحليلها من زوايا كثيرة. ومن ثمَّ فهم يفلسفون المرئي وغير المرئي منه. لذا لن يقعوا في هذه الدائرة الرومانسيَّة التي تحتاج إلى صبرٍ طويل، ومعاناةٍ شخصيَّة أكثر من اللازم ؛على عكس الأدباء الذين يمثل موضوع الحبّ عندهم (تسلية) ومن هذه التسلية يكتبون أروع القصائد والروايات والقصص الخالدة. فهو دراما أدبيَّة ناجحة على مدار الزمن؛ غير أنَّ الفلاسفة أثاروا هذا الموضوع بالكثير من التحفظ، كمن (يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يُؤكل حياً) فهم عقلانيون كثيراً و(مشغولون بتحرير الإنسان من كلِّ أشكال العبوديَّة العقليَّة) لذلك يقول أبيقور: (يكون خطاب الفيلسوف خاوياً إذا لم يسهم في شفاء ألم النفس).

ويبدو أنَّ الحبَّ (يقاوم) كلَّ أشكال (العقلنة) لذلك اتسمت خطابات الفلاسفة بالذكوريَّة والتعالي والتحليل والتعقل، بل وحتى “الازدراء” وبما أنَّ الخطابات والأفكار الفلسفيَّة، هي إنتاج ذكوري على الأغلب الأعمّ، فالتقاطعات معها ستكون صعبة، وغير منطقيَّة بالنسبة لهم. غير أنَّ من الفلاسفة المحدثين مثل آلان باديو الذي وضع “الحبّ” على طاولة الفلسفة، وصفه بأنه (نتاج الحقيقة).

تتساءل ماري لومونييه وأود لانسولان، مؤلفتا كتاب (الفلاسفة والحب- ترجمة دينا مندور- التنوير- 2015)  إن كان الكثير من الفلاسفة لم يعرفوا الحبّ. وهو سؤال ينطوي على تشخيصات معيّنة في قراءة خطابات الفلاسفة وسلوكهم الإنساني على مرِّ الزمن المتتالي. وبطبيعة الحال لن تكون الإجابة بـنعم. وهذا ما انشغلت به المؤلفتان، وهما تتابعان الخيط الرومانسي لعشرة فلاسفة معروفين. لكن قبل هذه تعرضان أرضيَّة عامّة، لتفريق هذه الموضوعة على أسماء معينة، ناقشت أو استوعبت موضوع الحب من جوانبه المضيئة. فالكاتب دو لا كلو لم يعترف بأساتذة له سوى روسو. وينبغي عدم إغفال شوبنهاور ببروست (الذي كان ظاهرة لا مثيل لها في الغيرة والغمّ العاطفي) ولكن السؤال التالي: هل كان الفلاسفة (روائيين عظاماً تحدثوا عن الحبّ) قبل أن يكونوا فلاسفة، لتختلف انشغالاتهم وتتسع في الكون وتتدخل في مزايا الإنسان وصفاته وشهواته ورغباته؟

شوبنهاور أوصى (بالإذعان الشامل) وروسو نادى (بالسمو المطلق) وسقراط كان عشيقاً مخلصاً لألسيبياد وأجاتون. والبقيَّة كانوا متباينين في الإسراف بعواطفهم الإنسانيَّة. غير أنَّ فيلسوفاً ألمانياً هو تيودزر أدورنو كان أكثر تشاؤماً من غيره، عندما وصف (الوجه التافه واليائس للحبّ) مع نزعة الاختزال العلمي في الأزمنة الحديثة حيث (فرض الانفصال بين الحبّ الجسدي والحبّ الروحي) وطغيان الجنسانيَّة على المشاعر البيضاء، لكن هذا رأي من آراء كثيرة، تحاول أن تجد لها فسحة تعريفيَّة مضمونة للجدل، أو رأياً معقولاً في خاصرة الحبّ الذي ألهم الإنسانيَّة الكثير من مفردات الجمال وتعظيم الحياة.

أفلاطون

لم يستعمل أفلاطون “الحبّ الأفلاطوني” الذي سُمّي باسمه، عندما رسم (ملامح الرؤية الغربيَّة للحبّ طوال القرنين الماضيين لظهوره) في كتابه المعروف “ المأدبة “ وبغضّ النظر عن السرديَّة الطويلة التي ذكرها المؤلفان في “جلسة السكر الجماعيَّة” التي دارت في منزل أجاتون. بحضور سقراط أيضاً، وبعض الكهول المثليين والشباب المنحرفين. فإنَّ الحبَّ الأفلاطوني هو محاولة للاقتراب من مستويات الحكمة والجمال الحقيقي، بدءاً من الانجذاب المادي إلى أجساد الأفراد، حتى الانجذاب الروحي، ثم (الاتحاد مع الحقِّ في نهاية المطاف) وهذا هو التفسير الفلسفي القديم. على أنَّ مثل هذا الحب الذي تطرّق إليه أفلاطون، ليس هو الرومانسي المتعارف عليه. أي أنه يدعو إلى الحبِّ الذي لا ينطوي على انجذاب جسدي حميم كالحبِّ الرومانسي. وفي فلسفة الحبِّ التي يدعو إليها، عبر المأدبة الحواريَّة التاريخيَّة، التي قال فيها جوهر ما يفكر به بشأن الحبّ؛ مع تصوير سقراط وشخصيات المأدبة بشكل أنموذجي، كأرستوفانز وأجاثون وألقبيادس. 

في المأدبة يقول أفلاطون إنَّ الحبَّ السماوي- المنسوب إلى أفروديت السماويَّة بنت أورانوس- هو الحبّ الذي يهدف إلى تثقيف الذات أو تحصيل الفضيلة والحكمة، وقد أتجاوز وأقول إنَّ هذا الحبَّ هو أكثر دناءة من سابقه، لأنَّ الأول يدُلّ على طمع الجسد ورغبته في اللذة سواء الجنسيَّة أو الماديَّة. 

في إحدى ليالي أثينا الحالمة، حضر بعض فلاسفة وشعراء اليونان مأدبة أعدّها الشاعر أجاثون احتفالاً بفوزه في مسابقة مسرحيَّة في اليوم السابق. وبعد أن فرغوا من الطعام، تحداهم فايدروس أن يُلقي كلٌّ منهم خطبة يصف فيها الحبَّ ويُثني عليه. وكانوا مخمورين، انطلق كلٌّ منهم في محاولة الإمساك بذلك الشعور الأثيري مُمثلاً في إيروس إله الحب، وإعطائه جسداً من كلمات. كان ذلك هو الإطار الذي دارت بداخله محاورات “المأدبة”، كتاب أفلاطون الذي تمحور خصيصاً حول الحب. 

 لوكريس

يؤكّد الفيلسوف اليوناني أبيقور ملهم الشاعر الإيطالي لوكريس “أنَّ اللذة المنبعثة من الحبّ ليست أمراً سيّئاً، ولكن السيئ هم الذين يفتّشون عن المشكلات بدل تفتيشهم عن اللذة”، وبعد قرنين من هذا القول، يطبق لوكريس مفاهيم أستاذه أبيقور في قصيدة فلسفيَّة يتحدّث فيها عن قتامة الغرام وجراحه، وعن لذة الحبّ التي لا تدوم سوى لحظات، مضيفاً: “عندما يمتلك العاشق عشيقته، لا شيء يهدّئ من لوعته العميقة، بل على العكس تماماً يشعر بالتشوّش الجنسي والعاطفي اللذين يضيّقان الخناق عليه، فيرتبط بعشيقته ارتباطاً لا فكاك منه، ويعيش حالة نهم غير محدود، ثم أنَّ العاشقين لا تشبع عيونهما من النظرات المتولّهة، ولا تقوى أيديهما على الابتعاد عن ملامسة الأجزاء الحميمة”. 

شاعر إيطالي أرستقراطي التربية والتفكير. كان لمطولته الشعريَّة (عن طبيعة الأشياء) تأثيرها الكبير في الثقافة الغربيَّة وحتى العصور اللاحقة، بأسلوب ملحمي (تتناول التطور المستمر للكون.. عندما استحضر فكرة طاعون أثينا) و(الحصول على اللذة والسعادة تتوجب عليه أن يتخلص من خوفه من الآلهة والموت) و(يكون الحب هو حالة نهم غير محدود..) و(عيون العشاق لا تشبع من النظرات المتولهة) ثم (أنَّ العاطفة الجنسيَّة يصاحبها بالضرورة نوع من الكراهيَّة. فنجاسة شهوة العشاق تُخفي أشواكاً تحثهم على الجرح)

كثير من الفلاسفة فشلوا في إقامة علاقة عاطفيَّة (نيتشه مثلاً) وكثيرون أقاموا جسراً رومانسياً بينهم وبين النساء من أجل اكتمال حلقة الحياة الطبيعيَّة (سارتر وبوفوار) وكانت كتابات كير كيجارد (رسائل مشفرة إلى حبيبته) ومن الشواهد كثير في هذا المجال الذي التصق بعبقريَّة الفلاسفة الذين لم يتجرّدوا من إنسانيتهم، بل منحهم الحب فيوضاً من العواطف الملهمة في الكتابات الفلسفيَّة على وجه الخصوص.