ماكس بيكمان .. رسام الغموض الألماني

ثقافة 2023/03/29
...

ترجمة: رامية منصور



يعرف ماكس بيكمان بأنه أحد الفنانين الألمان الرواد في القرن العشرين، وغالباً ما يرتبط اسمه بالحركة التعبيرية. لكنه رفض الانضمام إلى أي حركة فنية، كان رائداً منفرداً لرمزيّة وأسلوب فريدين. رسم طوال حياته أكثر من 800 لوحة، ومئات المطبوعات والرسومات المنتشرة في جميع أنحاء العالم.

مارس بيكمان الرسم أول الأمر تحت تأثير الانطباعية، لكنه سرعان ما تكوّن لديه أسلوبه الخاص وأصبحت موهبته العظيمة معترفاً بها وبدأ في عرض أعماله بشكل مستقل. في الغالب رسم المشاهد الأسطورية والدينية بطريقة تقليدية..

 
غيرت أهوال الحرب العالمية الأولى التي شهدها نظرته للعالم تماماً وأدت إلى فقدان ثقته في البشرية وتعرّض لانهيار عقلي في عام 1915, ثم عاد للرسم مرة أخرى في عام 1917. التجارب التي عاشها بيكمان غيرت انطباعيته وجعلت فنه متطرفاً بشدّة, وأصبحت لوحاته أكثر تشويهاً وبشاعة ومليئة بالاستعارات المؤرقة.

لوحة الليل ، التي انتهى منها عام 1919، طرح بيكمان فيها مشاعره من الأهوال التي رآها, حيث أظهر فيها تعذيب عائلة، وهي ترمز للحرب، صور الوضع السياسي بعد الحرب في ألمانيا. ركز فيها على الفوضى بشكل أكبر من خلال استخدام بيكمان لضربات الفرشاة البنية والحمراء. لا تزال الرمزية الغامضة التي استخدمها بيكمان في لوحاته ، بما فيها لوحة الليل، غير مفهومة تماماً حتى اليوم. يمكنك , على سبيل المثال، أن تنتبه لوجود الحاكي بجوار شمعة ساقطة، وهذه الرمزية مجهولة المعنى لأي شخص سوى الفنان نفسه.

مع صعود هتلر في ألمانيا، أصبح من الصعب على الفنانين الألمان المعاصرين الحفاظ على أنفسهم. اعتبر النظام النازي الفن الحديث فساداً أخلاقياً واجتماعياً، ووصفه بالفن المنحط. تم حظر ممارسة الفن على اليهود، غير الألمان، إضافة إلى الأعمال التي تنتقد المجتمع.. ومع نهاية الثلاثينات تمت مصادرة أكثر من 600 من لوحات بيكمان. خلال هذا الوقت أنجز لوحته “ المَخرَج “ .. وعلى الرغم من كونها لا تعالج بالضرورة أي قضايا سياسية، إلا أنها تعتبر اليوم بياناً حول نظام هتلر. هذا العمل هو الأول الذي قدّمه في شكل ثلاثي، أي أنه مقسم إلى ثلاثة أقسام. هذا الشكل مستوحى من مذابح العصور الوسطى وعصر النهضة، والتي كانت ملهمة للغاية لبيكمان بعد عودته من الحرب العالمية الأولى.

اشتهر بيكمان بالصور الذاتية التي رسمها طوال حياته، ولا ينافسها في عددها وكثافتها إلا تلك التي رسمت من قبل رإمبرانت وبيكاسو. بالإضافة إلى قراءته للفلسفة والأدب جيداً، فقد تأمل بيكمان الروحانية والتصوف بحثاً عن الذات. سعى بصفته رساماً ومفكراً حقيقياً  للعثور على البعد الروحي الخفي في مواضيعه..

على عكس العديد من معاصريه الطليعيين، رفض بيكمان الرسم غير التمثيلي؛ بدلاً من ذلك، قام بتطوير تقليد الرسم التصويري وطور تقاليده. كان معجباً للغاية ليس فقط بـسيزان وفان خوخ، بل وأيضاً بـبليك ورإمبرانت وروبنس، بالإضافة إلى الفنانين الأوروبيين الشماليين في أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة، مثل بوس وبروخل وماتياس غرونيفالت. إنّ أسلوبه وطريقته في التكوين متجذران جزئياً في صور الزجاج الملون في العصور الوسطى.

خلقت مجموعة أعماله المتنوعة نسخة شخصية للغاية ولكنها أصيلة في الحداثة، مع مراعاته للأشكال التقليدية. أعاد بيكمان ابتكار ثلاثية الأديان ووسّع هذا النموذج الأصلي للرسم في العصور الوسطى ليصبح رمزاً للبشرية المعاصرة.

منذ بداياته في نهاية القرن التاسع عشر إلى الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، عكس بيكمان حقبة من التغييرات الجذرية في كل من الفن والتاريخ في عمله. تعبر العديد من لوحات بيكمان عن معاناة أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين. تشير بعض صوره إلى بريق ثقافة الملاهي في جمهورية فايمار، ولكن من الثلاثينيات فصاعداً، غالباً ما احتوت أعماله على إشارات أسطورية إلى وحشية النازيين. حملت مواضيعه ورموزه معاني أكبر من حالة القلق التي عاشها لتعبِّر عن مواضيع عالمية للإرهاب والفداء وأسرار الخلود والمصير. 

حمل ماكس بيكمان ثقل القرن العشرين كما لو كان تلسكوباً ينوي استكشاف الظلام المحيط به. يؤكد الإطار الضيق للشكل داخل حدود اللوحة على انحشاره في صور قلقه ومخاوفه. تصف مؤرخة الفن كورنيليا ستابنو لوحاته بأنها “تحمل حزناً، ولكنها أيضاً تحمل غموضاً، مختلطاً بصوره الذاتية”.