بروباغندا الشركات

ثقافة 2023/03/29
...

ترجمة: حيّان الغربيّ



يَبْسِطُ كتابُ “الأسطورة الكبيرة”، لمؤلِّفيه ناومي أورسكس وإريك كونواي، الجهود المنسّقة التي قادتها مؤسسات التجارة والأعمال في الولايات المتحدة رامية إلى التمكّن من صياغة الرأي العام والتحكّم به، ولكن هل نجحت في مساعيها تلك حقاً؟

كتب جون مينارد كينز ذات يوم: “تخضع قوّة المصالح المكتسبة لمبالغةٍ هائلةٍ إذا ما قورنت بالاستمراريَّة التدريجيَّة للأفكار”. لكن ماذا لو كانت تلك الأفكار بحدّ ذاتها نتاجاً لعقودٍ من التلاعب الذي تديره من خلف الكواليس حفنةٌ من محرّكي الدمى الماكرين؟ وهو ما يخلص إليه المؤلّفان، ناومي أورسكس من جامعة هارفرد وإريك كونواي من معهد كاليفورنيا للتقنيَّة، في كتابهما هذا من خلال دراسة المواقف الأميركيَّة تجاه الأسواق والحكومة.


يستهلّ الكاتبان عملهما بسردٍ يستند إلى أبحاثٍ غنيَّة عن المساعي التي قامت بها المؤسسات التجاريَّة والشركات الأميركيَّة خلال النصف الأول من القرن العشرين بغرض تشكيل الرأي العام بشأن قضايا ومشكلاتٍ من قبيل عمالة الأطفال وتولّي الحكومة لمسؤوليَّة تنظيم الخدمات العامة، وفي وقتٍ لاحق، بشأن “الاتفاق الجديد- New Deal” إبان الولاية الأولى للرئيس فرانكلين روزفلت. وبالتالي، هما يصوّران حملةً أقرب إلى البروباغندا منها إلى حشد الدعم، بما يشمل كلَّ شيء بدءاً بالمنشورات والبرامج الإذاعيَّة وصولاً إلى تطهير المناهج الجامعيَّة غير المواتية. وبالنسج على هذا المنوال، قدّمت الشركات أنموذجاً لتطرّف السوق رفضت من خلاله أيَّ تدخّلٍ من جانب الدولة مهما صغر أو كبر بوصفه منزلقاً خطراً نحو الشيوعيَّة وروّجت لحريَّة التجارة باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من الحريات الأخرى التي نهضت الولايات المتحدة على أساسها. 

ولكن في نهاية المطاف، وعلى الرغم من كلِّ تلك المحاولات، تمَّ حظر عمل الأطفال قانوناً وتولّت الحكومة تنظيم الخدمات العامة كما أعاد “الاتفاق الجديد” صياغة الاقتصاد الأميركي، مما أوحى بأنَّ المساعي الرامية إلى تحويل الولايات المتحدة إلى بؤرةٍ للتعصّب للسوق بحلول أواسط القرن قد باءت بالفشل. 

وهكذا، برزت الحاجة إلى مستوى أعلى من المصداقيَّة الفكريَّة لتبادر الشركات إلى تمويل المفكّر الاقتصاديّ النمساوي، فردريش فون هايك، الذي أصدر كتابه الشهير: “الطريق إلى العبوديَّة”، شاجباً من خلاله ومحذّراً من المشاعيَّة والتخطيط المركزي. كما برزت الحاجة أيضاً إلى السطوة الأخلاقيَّة، فمدّت الشركات يد التعاون إلى رجال الكهنوت المحافظين لإقناع أبناء الطائفة الإنجيليَّة في الولايات المتحدة بأنَّ المسيحيَّة والرأسماليَّة صنوان لا يفترقان. علاوةً على ذلك، أدركت الشركات الحاجة إلى الغطاء الثقافي كذلك، فلم تتوانَ عن بذل قصارى جهودها في سبيل إلباس السوق الصناعيَّة والتجاريَّة حلّةً ورديَّة مشرقةً من خلال السينما والتلفزيون.

أفضى ذلك، كما يرى المؤلّفان، إلى تهيئة المجتمع للتهليل للثورة التي قام بها ريغان خلال ثمانينيات القرن المنصرم. وبعد ذلك، ينصرف الكتاب إلى تقديم نقدٍ لسياسة الاقتصاد الحرّ التي سادت خلال العقود الأربعة الماضية مع التركيز، بصورةٍ خاصةٍ، على نزع السيطرة الحكوميَّة على المجالات الماليَّة والبيئيَّة فضلاً عن تمييع القوانين المناوئة للكارتيلات الضخمة والتجارة الحرّة. لكنّ كلَّ هذه الأمور قد تبدو في أعين القرّاء المعتادين على مناقشة هذا النوع من المشكلات أقلّ أصالة مقارنةً بالفصول السابقة من الكتاب، لا بل وقد يعتقدون أنها أحاديَّة الجانب في بعض الأحيان. ويكتفي المؤلّفان بتقديم بضعة تفاصيل فقط حول ارتفاع مستوى “حوكمة” الأسواق.

على الرغم من ذلك، أفلح الكتاب في التأريخ للجهود المنسّقة التي قادتها الشركات الأميركيَّة بغية حرف الرأي العام نحو تأييد حريَّة الأسواق. ولكن يبقى السؤال فيما إذا كانت هذه الجهود قد أحرزت أيَّ نجاحٍ بحاجةٍ للإجابة. لعلّ الكاتبين محقّان في أنَّ الشركات قد أسهمت في التوطئة للعصر الذهبي لاقتصاد ريغان، بيد أنها لم تفلح في كسب محبة الناس على الأغلب.

لم تتجاوز نسبة الأميركيين ممن أكدوا أنَّ لديهم “قدراً كبيراً” أو “كبيراً تماماً” من الثقة في الشركات الكبيرة 14 %، مما يعني أنها قد هوت من 34 % سُجِّلَت في العام 1975 وفقاً للبيانات الصادرة عن مؤسسة استطلاعات الرأي الشهيرة غالوب. وهي، بهذا، تتقدّم على الكونغرس، الذي بلغت نسبة من محضوه ثقتهم 7 %، ولكنّها تتخلّف عن مؤسسة الرئاسة التي حققت نسبةً قدرها 23 %. بقي أن نشير إلى أنَّ النسبة الأعلى، وقدرها 68%، كانت من نصيب المؤسسات التجاريَّة الصغيرة. كما تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنَّ أفلام السينما الأميركيَّة واظبت على تسليط الضوء على الجانب الجشع والوضيع لدى الشركات الكبرى مثلما هو الحال بالنسبة للعمل الكوميدي “أوفيس سبيس” الصادر عام 1999 وغيره الكثير وصولاً إلى شخصيَّة “لورد بزنس” في فيلم الليغو الصادر عام 2014.

في غضون ذلك، أشار الاستقصاء الذي صدرت نتائجه في العام 2020 عن شركة “إيدلمان” للأبحاث إلى أنَّ 47 % من الأميركيين يشعرون بأنَّ “الرأسماليَّة بوضعها الراهن تلحق أضراراً بالعالم تفوق الفوائد التي تعود بها عليه”، مما يؤكّد إلى حدٍّ كبيرٍ ما ورد أعلاه. زد على ذلك، وفقاً لمؤسسة غالوب، يميل الأميركيون ممن هم تحت سن أربعين عاماً في عصرنا الراهن إلى إبداء رأيٍ إيجابيٍّ حول الاشتراكيَّة بما لا يقلّ عن رأيهم في الرأسماليَّة على وجه التقريب. 

ما لبثت الشركات أن تلقّفت التغيّر في المزاج العام حتى شرعت في تغيير نغمتها، فعلى سبيل المثال، كانت مجموعة طاولة الشركات المستديرة، وهي واحدةٌ من جماعات الضغط البارزة، قد دافعت ذات يومٍ عن وجهة النظر التي تفيد بأنه ليس على الشركات أيُّ التزامات سوى التزاماتها تجاه مساهميها، بيد أنها في العام 2019 صرّحت أمام تجمّعٍ حاشد بأنه ينبغي للشركات الاهتمام بعملائها وموظفيها ومورديها ومجتمعاتها. ولكن فلنكن مغرضين في فهمنا لهذا التصريح لنجد أنه مجرّد تغييرٍ في شكل المبدأ القديم مع عدم المساس بجوهره: ثقوا بالشركات تكونوا جميعاً على ما يرام.