«نحيب الرافدين» أنموذجاً

ثقافة 2023/03/29
...

 عبدالله الميّالي

         صدرت رواية (نحيب الرافدين) بطبعتها الأولى في عام 2011، عن دار نقوش عربية في تونس، وصدرت بطبعتها الثانية في عام 2016، عن منشورات الاختلاف في الجزائر، ومنشورات ضفاف في بيروت (وهي الطبعة التي اعتمدناها في مقالنا هذا) وتقع في 612 صفحة.يشحذ الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي في روايته (نحيب الرافدين) ذاكرته ليعيد لنا صوراً من مأساة العراق أيام حرب عبثيَّة امتدت لثماني سنوات مع إيران. ما فعله الروائي هو استعادة لتلك الأحداث والصور والمشاهد والمواقف التي رافقت الحرب، بل هي الوجه الثاني للحرب وأهم إفرازاتها. الحرب بكل بشاعتها عند الحدود، وحرب أخرى مع الشعب في الداخل، ولأن حاول الزمن أو النظام مسح هذه المأساة بوجهيها الخارج والداخل، ومحو الذاكرة وطمس الحقائق، تأتي الرواية لتعيد إحياء الذاكرة واستعادة تلك الصور بخيباتها وتعاستها ومرارتها ومأساتها وآلامها، بعد أن حاول النظام "بغباء وجهل إعدام الذاكرة العراقيَّة" ص42.                                           

وإذ نجد روايات عراقيَّة وحتى عربيَّة تناولت مأساة تلك الحرب العبثيَّة، كرواية (وكر السلمان) لشلّال عنوز، ورواية (صوتُ الطبول من بعيد) لفلاح رحيم، ورواية (الحرب في حي الطرب) لنجم والي، ورواية (المحرقة) لقاسم محمد عباس، ورواية (حياة باسلة) لحسن النواب، وروايات أخرى، فإنّ رواية (نحيب الرافدين) تناولت الوجه الآخر للحرب من الداخل، حيث عمل النظام على مسخ الهوية والشخصية عند المواطن العراقي، وتحويله إلى قطيع يتبع النظام من دون تعليق أو رأي أو اعتراض أو تفكير وإلا فالعقوبات بأنواعها حاضرة دائماً: "لا قدرة لأيّ عراقي على النطق بشيء. كانت العيون وحدها تقول كل شيء، ولكن بصمت، هذا الصمت الذي إن تحول إلى احتجاج فمعناه انتحار قائلها" ص26.

جاءت أحداث الرواية عن طريقين: الراوي العليم، والراوي البطل (غسان العامري) الذي هو صورة خلفية للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي نفسه، كأن الرواية سيرة ذاتية أدبية لمرحلة حياتية مر بها الروائي الربيعي وهي مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، مع استرجاعات لمراحل حياتية سابقة، حيث تنتمي الرواية أيضاً لما يُسمى بـ (تيار الوعي)، فما قدمه الربيعي في روايته هي أحداث تاريخية وتسجيلية وتوثيقية وسردية دقيقة مؤرشفة بالاسم الحقيقي أحياناً، وبالرمزي في أحايين أخرى، وكما يشير لذلك الناقد ماجد السامرائي في مقدمته للرواية: (ما أتيتنا به ليس قصصاً متخيلة، وإنما هي وقائع كُتبت في حينه بكلمات من جمر) ص15.

تدور أحداث الرواية بأسلوب غير متسلسل، وليس كما هو الحال عادة في الروايات السير ذاتية، بل جاءت بأسلوب القطع، فمشهد في بغداد وآخر في مدينة الناصريَّة، مشهد استذكار الطفولة وآخر عند عمله الدبلوماسي في السفارة العراقية في بيروت، مشهد عند الحدود حيث الحرب الضروس وآخر عند مأساة الحرب الأهليّة اللبنانيّة، مشهد الهروب من الواقع المؤلم باحتساء الويسكي والبحث عن الجنس وآخر في المقهى مع الأصدقاء الأدباء، مشهد البطل مع عشيقته في بيروت أو بغداد وآخر مع زوجته/ مطلقته، مشهد حوارات ونقاشات وآخر هواجس وخوف ونقد خفي للنظام. 

تناولت الرواية فضح ممارسات النظام بحق شعبه، مأساة انهيار بلد عريق وحضاري، بفعل حرب عبثية مجنونة كانت بداية لسلسلة حروب وغزوات وعنتريات نظام جائر همجي لا يتحلى بأدنى درجات الحكمة والكياسة والمسؤولية. ويشفع للرواية في مرجعيتها الأيديولوجية أن كاتبها أحد المسؤولين في المجال الثقافي والأدبي للنظام نفسه، حيث شغل منصب (مدير المركز الثقافي العراقي في بيروت لعدة سنوات)، أي أنه قريب من حلقة النظام (الثقافيَّة والأدبيَّة) وعلى معرفة ودراية بتلك الممارسات لكونه في قلب الحدث، فهو أكثر من غيره رصداً ومعاينة لمجرى الأحداث: "لقد قبلت العيش في قفصي مجترّاً موتي، مصادراً بخوف أجهله، خوف أنتظره مع كل طرقة على باب شقتي، في نظرات هؤلاء الرعاة الزاحفين على كبرياء المدينة بجهلهم وشرههم وجرائمهم، في سيارة طائشة، في كلمة أكتبها وأراجعها ألف مرة حتى لا يتمُّ تأويلها أو إيقاظ هوى التفسيرات فيها" ص67 .. كانت جرائم النظام تُرتكب في الداخل بصمت بحجة التعبئة للحرب وإدامة زخمها ما دام السلطان هو ظل الله في الأرض!: "في حمأة هذه الحرب واختلاطاتها جرى اقتراف كل المحرمات، وانطلق كل الخبث الكامن والأحقاد المتوارثة وجشع الطبقة الصاعدة التي تمثل قطاع طرق سابقين ولصوصاً وأشباه أميين وبائعي ضمائرهم. فأصبح الأخ يقتل أخاه والمرأة تنحر زوجها والحزبي يطأ الحزبي في عمليات مزايدة على كل شيء، على الوطن، على التاريخ، على الناس!" ص81.

أعادت لنا الرواية صور مرعبة لذلك النظام الاستبدادي القمعي الذي عمل على تفكيك المجتمع وتحطيم قيمه الاجتماعية وإذلال المجتمع والأسرة والفرد لعدة عقود، وكشفت منظومة الفساد السياسي والأخلاقي المتجذّر. فأعادت لنا الرواية صورة الأب القاتل لابنه بحجة رفضه الالتحاق بحرب مجنونة بينما كانت عينه على زوجة ابنه!، وصورة الزوجة التي توشي بزوجها ليختفي فيحلو لها الجو مع عشيقها!، وصورة الأديب الروائي الذي يُعدم لأنه حاول الهروب إلى الخارج!، وصورة الأديب الذي يُعتقل ستة أشهر لأنه تجرّأ وأّلّف كتاباً عن علي بن أبي طالب!، ولا يُطلق سراحه حتى يألف أربعة كتب أخرى، ثلاثة عن بقية الخلفاء الراشدين، والرابع عن خليفة الزمان (عملاق الرافدين)!، وصورة سائق الدراجة البخارية الذي لم يحالفه الحظ للحصول على شهادة الابتدائيَّة، ولكنه يتدّرج في المناصب ليصبح ثاني اثنين لهما كلمة الفصل في البلد!، وصورة الصبي/ الشاعر العبقري الذي مدح رأس الهرم بعدّة قصائد لتكون له جسراً نحو الرفاهية والملايين والعقارات والسيارات!، وصورة الابن المستهتر الذي بلغ من استهتاره بأبناء البلد أن تجرأ وقتل أحد أفراد حماية والده الزعيم!، وصورة الشاعر الشعبي الذي رموه في حوض الأسيد لأنّه شتم الزعيم وهو في حالة السُكر واللاوعي!، فلم تشفع له قصائده في تمجيد الحرب وحب الزعيم، وصورة ممثل كبير يفتح كشكاً لبيع الصحف لأنه لا ينتمي لفرقة المدّاحين والطبّالين والهتّافين!، وصورة أدباء كبار يحولون سياراتهم الخاصة إلى سيارات تاكسي لكي لا يقتاتوا من موائد السلطان المغمّسة بدماء الأبرياء!، وصورة.. وصورة.. وصورة.

كأنَّ الرواية تعيدنا إلى بعض أجواء رواية (الكرنك) لنجيب محفوظ، حيث صورة بشاعة كبت الحريات، وعذابات القهر والإرهاب، والفساد السياسي وفروعه، والذي كان من نتائجه نكسة حزيران 1967. فمما جاء في الكرنك: "نحن في زمن القوى المجهولة وجواسيس الهواء، وأشباح النهار، وجعلت أتخيل وأتذكر. تذكرت ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة. تذكرت سير المجرمين وملاحم العذاب وبراكين القلوب السود، ومعارك الغابات" [1]، وأكاد أجزم أن (الكرنك) ما هي إلا دمعة واحدة من (نحيب الرافدين).

رواية (نحيب الرافدين) هي بانوراما الوجع والحزن على بلدٍ تآكل وذاب وانصهر بفعل أبنائه لا أعدائه، إنّها رواية الابتسامة الموؤدة والفرحة الشهيدة والثقافة الجريحة والهوية المفقودة والمواطنة المستباحة: "ها هم يجثمون على صدورنا منذ قرابة الربع قرن، الوجوه هي هي، حتى كادت أن تتحول إلى مومياءات، ارتدوا الزي العسكري ومنحوا أنفسهم أعلى المناصب العسكريَّة، وزيّنوا صدورهم بالنياشين، وتحول راكبو الدراجات البخاريَّة في مواكب الحماية إلى جنرالات من دون أن يروا كلية عسكريّة، ولحق بهم الرعاة وأبناء العشائر، أسكتونا وكأن المطلوب منا أن نمتثل، ننفذ .. لقد حلّوا بديلاً عن شعب، يفكرون نيابة عنه، يختلفون مع هذا ويتفقون مع ذاك، ونحن غائبون!" ص283، كأنَّ الكاتب هنا يستدعي مقولة حنا بطاطو: (النظام يعيد مبدأ الأكثرية الديمقراطية إلى الخلف، ويأتي بمبدأ الأقلية النخبة إلى الواجهة)[2]. 

وربّ قائل يقول: إنّ هذا النصوص تنطبق على نظام ما بعد عام 2003 أيضاً، فلماذا نحاكم النظام السابق ولا نحاكم النظام الحالي؟ وإن كنت اتفق تماماً مع هذا الرأي، ولكن يجب أن نعترف أيضاً أن نظام ما بعد 2003 ما هو إلا أحد إفرازات ونتائج وثمرات نظام ما قبل 2003، فلو كان النظام السابق يتميّز بالحكمة والكياسة والاعتدال والانضباط ومراعاة الأعراف الدولية والابتعاد عن الرعونة والحماقة والعنتريات لما كان قدرنا أن نبتلي بنظام آخر له ما له من الغباء والجهل، ويفتقر هو الآخر للحكمة والانضباط والكياسة ومعايير وأنظمة الدولة الحديثة.  

جنحت الرواية إلى التقليدية والمباشرة، على غير ما تعودنا عليه من أعمال الربيعي، وهذا لا يقلل من شأنها بطبيعة الحال، لأن الرواية هنا جاءت بخلفيتها الواقعية والتسجيلية والتوثيقية لأحداث مرّ بها الكاتب وعايشها أو سمعها من مجايليه، فيكون الروائي هنا كما قال أحد الباحثين: "نرى أن الأدب تعبير بالكلمة عن رؤية الأديب لواقعه، وأن الأديب بعمله الأدبي يعيد تشكيل الواقع ويختار منه ما يتلاءم مع رغبته في الكشف عن هذه الرؤية .. وإن رؤية الأديب كلما كانت أكثر عمقاً وحساسية وذكاء كلما كانت أقدر على كشف القوى التي تعيق حركة الواقع  وتقهر إنسانية

الإنسان"[3].