زيــــارة

ثقافة 2023/03/29
...

  لؤي حمزة عباس

توجّهت صباحاً إلى البنجرجي، بعد أن أقلقني ثقل وارتجاف أحسستهما في إطار السيارة الخلفي جهة اليسار، حدثت نفسي عن نقص الهواء الذي يفعل الأفاعيل، بالسيارات وبنا.  أوقفت السيارة، نزلت منها وخطوت، وقفت عند عتبة المحل الواسعة، بين الداخل الظليل والخارج المكشوف لضوء النهار. قلت للرجل: ـ هواء، من فضلك. نعم، أقول من فضلك لبائع الخضار، ولعامل المخبز، وللكهربائي، والفيتر، والبنجرجي، والحداد، تلك عادة لا أعزوها لتأدبي، إنما أظنُّها محاولة لتجاوز وهن الجسور بيني وبين الآخرين أياً كانوا، وبيني وبين نفسي. قال، ما إن وضع فم أنبوب الهواء البني الداكن في حلمة الإطار:ـ هذا مضروب برغي وما يفيده الهوا

 قلت له على الفور، كأنني أنفض الجملة عن كاهلي: ـافتحه. 

كنت أسمعه بنصف وعيّي، ونصف وعيّي الآخر مع إيمان مرسال وكتابها، أشباح الكتاب تتخاطف من حولي ووسوسته تملأ رأسي، عن أنانية الأمومة، وعن الأمّهات المخفيّات، والمشي في طريق الحداد، وأحزان الجدّات اللواتي يحدّثن حفيداتهن من وراء ستار الموت، وعن العالم العادي الذي نبدو على غير اتصال عميق به، كلانا. 

فتح الإطار ودحرجه بيدين متربتين، بقّع الزيت جلد أصابعها المغضّن، وفي الظل، بعينيه المجرّدتين، بدأ يحسب البراغي والمسامير التي خرقت الإطار، قبل أن يضعه في حوض الماء، متعمداً أن يُسمعني: 

ـ أربعة بناجر.

قال مطمئنّاً.

 ثم أخذ بلايس من رفٍّ قريب نخره الصدأ، وبدأ يخلّص البراغي والمسامير واحداً إثر الآخر، ثم يكوّمها أمامه على حافّة الحوض، انشغلت عندها بالحديث مع نفسي، كما لو كنت أكتب: 

التفكير بكتاب إيمان مرسال يشبه مناجاة روح أثّقلتها التجارب فهي ترتجف مع كلِّ حرف، وهي، مع ذلك، كتبت كتاباً فريداً.

 توقّفت، وسألت نفسي: 

كم يصعب أن يكتب أحدنا سطراً يقال عنه سطر فريد! 

لم أنتبه إلا والرجل يُشعل النار داخل الإطار، 

ودّدت لو أسأله عن رأيه في أن نُخلّص أرواحنا مما علق بها من براغٍ ومسامير، نضعها في أكوام صغيرة، ونضع كلَّ كوم أمام صاحبه، ونُشعل النار بما يتبقّى، استسخفت الفكرة ولم أسأل، من الممكن أن أرسل السؤال إلى إيمان في الواتس، أكتب الجملة وأضغط الأيقونة بلا تردّد، ستستغرب حتماً، حالما تقرؤها، وربما تضحك لفكرة الأرواح التي تخرقها البراغي والمسامير.

لم أكن على صلة مباشرة بإيمان، صلتي بها قرائيَّة حسب، وحسب ما يصادف ويقع في يدي، ولا أظنها تعرفني بالمقابل. كتب لي أحمد شافعي، الشاعر والروائي والمترجم، وهو صديق مشترك بيننا، عن رغبتها بزيارة بغداد خلال أيام، من أجل مشروع بحثي، كانت إيمان قد زارت بغداد ضمن وفد نسوي خلال تسعينيات الحصار ـ ذلك ما ستخبرني به بعد أيام، في أحد اتصالاتنا الهاتفيةـ وكانت وقتها صبيّة ترتدي تنوّرة قصيرة، اقتيد الوفد، بطريقة ما، للقاء الرئيس صدام حسين، جلست في الصف الأخير من القاعة تُخفي نفسها وتلمُّ ساقيها تحت تنورتها، ثم ترفع رأسها لتراه وتتأكد أنه هو الذي يتكلّم، منذ ذلك الوقت، بقيت بغداد، بالنسبة لها، مدينةً بعيدةً يلفّها غبار الحكايات والأخبار المتضاربة وتكاد تبتلعها الأساطير، وربما رأتها في حلم ثقيل وغير مفهوم من أحلامها، بأبواب عظيمة مغلقة يقف أمامها عساكر ببزّات مكوية ونياشين. فور قراءة رسالة أحمد فكّرت برغبة إيمان في تجديد إحساسها بالمدينة والتشبّع بها، 

قلت له بالحرف: 

"أهلاً بإيمان، تشرّف، وضع بغداد مطمئن وليس ثمة ما يدعو إلى القلق. 

أسكن البصرة، كما تعلم، وعملي فيها،

 لو كانت التزاماتي أقل لكنت في بغداد لاستقبالها، أرجو تفضلك بكتابة بعض تفاصيل الزيارة لأكلّف صديقة أو صديقاً لمتابعة حضورها" وحاولت الاتصال به، عبر الماسنجر، لكنني لم أوفق.

في آخر النهار وصلتني منه الرسالة التالية: 

"أعرف أنك في البصرة يا صديقي، وقلت لها ذلك.

لكنني قلت إن حديثها معك يكون مفيداً في كلِّ الحالات، دون أن تكبّد نفسك أيَّ عناء، وأعتذر عن رداءة الشبكة عندي فلم أتمكن من سماع اتصالك".

على الفور، اتصلت بدكتورة صديقة، أفضل من يمكن أن يقوم بواجب الضيافة وأكثر، وكان هاتفها مغلقاً، سألت تميم عنها، وهو صديق مقرّب لابنها، أخبرني أنهما في زيارة قصيرة لدُبي، ويسلّمان عليك. بعدها اتصلت بالصديق الدكتور أحمد الزبيدي، رجل المهمات الصعبة، ثاني أفضل من يمكن أن يقوم بواجب الضيافة وأكثر، فرحّب بالمهمة واقترح، من جهته، إضافات وتنويعات لا أحسبها مرّت في ذهن إيمان. بعد أيام قليلة أرسل لي، في ساعة مبكّرة، صورةً على الماسنجر، إيمان خارجة من بوابة صالة الاستقبال في مطار بغداد التي تلوح خلفها خالية ولا معنى للتعليمات الظاهرة على شاشاتها، شعرها مضطرب يتوزّع في كتلتين على جانبي وجهها، أحكمت كمامة على فمها وأنفها، كأنها في أول الوباء، وفوقها ثبتّت نظارة مستطيلة العدسات، على ما بقي من وجهها تبدّى تعبُ سفر آخر الليل، وتدلّت على وسطها حقيبة جلد صغيرة بحمالات طويلة، حملت أخرى على ظهرها، وسحبت وراءها أخريين متوسطتين، حمراء وسوداء. أعدت ارسال الصورة على الفور لأحمد شافعي مع جملة: "بحفظ الله ورعايته، إيمان تصل الديار العراقية".

 منذ ذلك النهار بدأت صفحة جديدة من علاقتي بها، 

أتصل يوماً بيوم لأطمئن عليها، 

ثم بدأت أتصل لأُنصت لما تقول عن سعادتها ببغداد، وعن شعورها الذي لا مثيل له وهي تتنفس هواءها. 

في كلِّ مرّة، تقول:

ـ دي بغداد حلوة بجد، يا لؤي.

لأنها كانت تعيش تفاصيل المدينة، بأزقّتها الضيّقة ذات الروائح المنزلية، وشوارعها المتقاطعة، ومطاعمها المرمية في كلِّ مكان، وتتشبع بهوائها

كان كلُّ ذلك يصلني عبر حديث إيمان اليومي ونبرة صوتها، وبعدها، بدقائق، يزوّدني الدكتور أحمد بالصور، وصولاً للحدث المفاجئ الأهم: زيارة قبر أبي المغيث الحسين بن منصور الحلّاج، في جانب الكرخ. 

وقفت إيمان بجوار القبر المغطّى بقطعة قماش أخضر زيّنت حافتها بشريط ذهبي مشرشب، صُفّت فوقه أصصٌ بلاستيكية بورود دقيقة حمراء وصفراء، دموية الاحمرار وصفارها مخضر، كانت ترتدي أبسط ثيابها، وتلفُّ شعرها بمنديل أزرق بدوائر بيض، كبّرت الصورة على شاشة الجهاز، وتأملت تعابير وجهها وقد رمت كمامتها، مستشعراً المعاني التي تتنفس تحت جلدها وتنبض في شرايينها، لم يكن يعتمل في ذهنها، لحظة التصوير، غير مشهد الحلاج مصلوباً في مدينة خالية مترامية الأطراف، تعبث الريح بخصلات شعره الأشيب وثيابه المدمّاة، كان الحزن مرتسماً على ملامحها، والتسليم بادياً على يديها وقد احتوت كلٌّ منهما الأخرى، وكانت قدماها الحافيتان تضفيان على المشهد شعور عزاء راسخ، تراءى لي أنني أسمع ذلك كلَّه، في الفضاء الأخضر المضيء وتقويساته السماويَّة.

 فكّرت، وقتها، بأنَّ المدينة اكتشاف عظيم، مثل كلِّ اكتشاف عظيم آخر. كان البنجرجي يتحدّث، من داخل المحل، عن البراغي والمسامير، وكان يرفع يده، ثخينة الأصابع، ملوّحاً للسيارات العابرة التي يُطلق سواقها منبهاتهم، وهم يسلّمون عليه.