الفنُّ المفاهيمي أو التصوري.. تاريخٌ ونماذج

ثقافة 2023/03/30
...

 كايل دغوزمن

 ترجمة: مظفر لامي


غالباً ما ينظر للفن التصوري أو المفاهيمي conceptual art، على أنه شكلٌ فنيٌ مثيرٌ للجدل، زاخرٌ بمختلف الآراء والنقاشات المفتوحة، ويبدو أنَّ اشتغاله الرئيسي، موجهٌ بشكلٍ مباشر، نحو معالجة التساؤل القديم عن ماهية الفن. في هذه المقالة سوف نلقي نظرة على تاريخ هذا الفن والحركات الفنيَّة التي أثرت فيه، ونتفحص بعض نماذجه الشهيرة لنفهمه بشكلٍ أفضل. وفي البداية سنستعين بالتعريف المتداول، الذي يذكر أنَّ الفن المفاهيمي هو شكلٌ فنيٌّ، يحتل فيه المفهوم أو التصور أهمية أساسيَّة في العناصر المرئيَّة والحسيَّة للعمل الفني، في صورته النهائيَّة، كما يؤكد أسبقيَّة الفكرة والتصور على الأبعاد التقنيَّة والجماليَّة التي تستخدم بشكلٍ مكثفٍ في الأعمال التجريديَّة. وهذه الحركة ظهرت ما بين أوائل الستينيات ومنتصف السبعينيات، وهي تبدو، بصورة تقريبيَّة، معنيَّة بقرارات الفنان أيّاً كانت، وبعكس الأشكال الفنيَّة الأخرى، لا تُعرف بشكلها المادي، إنما بأصل التصور أو المفهوم الذي يكون بمثابة المحرك للخلق الفني. 

ولو عدنا للمؤثرات التي قادت لظهور هذه الحركة، سنجد أنها ترجع في الأصل، للأسئلة التي أثيرت حول حدود الفن مطلع القرن العشرين، التي تنامت وأدت إلى ظهور الفن المفاهيمي كما نعرفه اليوم. وكانت بواكيرها، في واحدٍ من أعمال مارسيل دوشامب الذي يعدُّ من النماذج التبشيريَّة الأولى في حركة فنية متطرفة أخرى تدعى الدادائيَّة Dada. حيث شهد معرض فني مفتوح أقيم في نيويورك في العام 1917، مشاركة الفنان بمبولة، اشتراها وقدمها كعملٍ نحتيٍ بعنوان (النبع)، وحين رفض المُحكّمون هذه القطعة وعدوها غير جديرة بأنْ توصف عملاً فنياً، أطلق دوشامب سؤالاً مهماً، عن ماهية الفن، وعن الحدود التي ينتهي عندها. وهذه الفكرة كانت البذرة التي أثمرت لاحقاً، في واحدٍ من الأعمال التأسيسيَّة لهذه الحركة الفنيَّة.

مع أوائل الستينيات، بدأت جذور الفن المفاهيمي في الظهور، وتحديداً داخل حركة التدفق (fluxus)، التي أخذت على عاتقها، تشجيع واحتضان كل أنشطة في الفن العالمي، تدعو لتخطي الحدود القديمة للفن. كما وفرت أرضيَّة خصبة، لمن يتطلع لمؤازرة النقاشات والمواقف التي تهتم بدفع الاشتغالات الفنية نحو مديات بعيدة. وعلى الرغم من أنَّ فناني هذه الحركة البارزين جورج ماكيناس وجوزيف بيس ويوكو أونو، لم يصنفوا ضمن حركة الفن المفاهيمي، إلا أنَّ تأثيرات تيارهم الفني لا يمكن إنكارها، فقد كانت الملهمة للجدل حول الفن، وكذلك للعمل الرائد المحتمل فيها.

قبل أنْ يشارف عقد الستينيات على النهاية، أخذ الفن المفاهيمي يصنف كحركة متكاملة ذات لغة تعريفيَّة محددة. والمقال الذي كتبه الفنان الأمريكي سول ليويت (فقرات عن الفن المفاهيمي) في العام 1967، خيرُ مثالٍ عليها، إذ عرّف فيه الشكل المفاهيمي كالتالي (في هذا الفن، تكون الفكرة أو التصور، الجانب الأكثر أهمية في العمل الفني. وحين يستخدم الفنان شكلاً فنياً مفاهيمياً، فذلك يعني أنَّ جميع عمليات التخطيط والقرارات قد تمَّ اتخاذها مسبقاً، والتنفيذ يكون بعدها، عملاً روتينياً فقط).

في ذلك الزمن، ولسنوات عديدة بعد هذا المقال، قدم الفنانون بعضاً من أشهر وأكثر الأعمال الفنية تأثيراً في الساحة الفنية، سنلمس من خلال تناول نماذج منها، مختلفة في الزمن، أنَّ هذا الفن لا يقف عند خامات أو أساليب محددة.

في العام 1965 قدم الفنان جوزيف كوسوث عمله المعنون (واحد وثلاثة كراسي)، المتكون من ثلاثة عناصر متجاورة، نذكرها من اليسار، صورة كرسي خشبي قابل للطي، كرسي خشبي حقيقي قابل للطي، لوحة كتب عليها تعريف قاموسي لكلمة كرسي. والملاحظ في هذه القطعة الفنية، أنَّ الوجود المادي لمادة الخشب، والنص، يثيران جدلاً حول العناصر المتغيرة في ماهية الفن، وفي ذات الوقت، يَمثُلان بديلاً عن مفهومٍ مشترك، صادف في هذه الحالة أنْ يكون كرسياً. العمل الآخر هو لدوغلاس هوبلر، الذي كان في الأصل نحّاتاً بسيطاً، وجد في نفسه ميلاً نحو هذه الحركة الفنية، وكلماته التالية تختصر هذا التوجه (العالم، بقدرٍ ما، مليءٌ بالأشياء، وكذلك، بنسبة ما، مثيرٌ للاهتمام. لذا، لا رغبة لدي بإضافة المزيد، وأفضِّل ببساطة، أنْ أعين وجود الأشياء فيه من حيث الزمان والمكان). في القطعة السادسة من مجموعته المسماة (سلسلة هوبلر الزمنيَّة) 1968، نجد عدداً من الصور، التقطت بمعدل صورة واحدة لكل 30 دقيقة، توثق التحول الطبيعي الذي يحدث لمستطيلٍ مكونٍ من نشارة الخشب، خلال ست ساعات. ومن التسعينيات نتناول عمل الفنان فيليكس غونزاليس الذي حاول فيه استكشاف مفهوم العلاقات الإنسانية وتأثير مرور الوقت، من خلال ساعتين تعملان بالبطارية، ضبطهما على وقتٍ واحد، وبمرور أيامٍ قليلة، تعطلت المزامنة في الساعتين، وأخذتا تشيران لأوقاتٍ مختلفة.

نلاحظ هنا، أنَّ الجدل الذي يثيره الفن المفاهيمي، يتجلى بشكلٍ واضحٍ، في العديد من أعماله، فهي تقود في نهاية المطاف إلى إحداث حوارات حول تعريف الفن. وهذا البحث في حدود الفن وأغراضه المنشودة، أدى إلى أنْ يكون لهذه الحركة ديمومة، تجاوزت نشأتها. واستقراءاتها للمفاهيم التي ربما كانت بسيطة أو معقدة أو مجردة بشكلٍ تام، فتحت الأبواب للفنانين الذين أرادوا تخطي الحدود المفروضة في إبداع أعمالهم الفنيَّة.