«جر محراثك فوق عظام الموتى»

ثقافة 2023/03/30
...

 جينا سلطان


    دشن البشر طريقهم نحو الإنسانيَّة بقتل الكائنات الأدنى منهم، واستخدام جلودها في الكساء ولحومها في الغذاء، وعظامها في صنع أدوات القتل الحادة، لإزاحة بعضهم بعضا عن مرابض الصيد. ومع أن نشوة التفوق والجبروت المتأتية عن القتل لم تتضح أبعادها في الجريمة الأولى في التاريخ، عندما قتل قابيل هابيل، لكن الدرس الدامي ارتسم عندئذ بوضوح في أذهان تيقظت لحكمة التقسيم الكوني بين أعلى وأدنى، وسمو ووضاعة. منحت الثقافات الشامانية القديمة القائمة على الإلهام الحدسي، ومن بعدها الأديان السماويّة، الطريدة ـ الذبيحة الوعد بالخلاص، فقرن السيد المسيح الصعود إلى الملكوت الأعلى بإحلال السلام بين جميع الكائنات، وشدد الإسلام على التعامل مع الحيوانات بالرحمة والإحسان، فدخلت امرأة النار في هِرَّة حبستها. 


واقترن نحر الأضاحي باحترام ألمها وعدم إطالة عذابها، كي تستكين لمصيرها، وتتحرر من وطأة الخوف والرعب. بالمقابل، بالغت الحضارات ذات الصبغة المادية في تكريس نشوة القتل، وإعلاء شعار التنافسيّة، استمراراً للخطيئة الأولى المتمثلة في الكبرياء، فتناسلت في صور الامتيازات الطبقيّة المختلفة، وتحت مسمّيات شتى.    

    أما المظاهر السلوكيّة العدوانيّة المتأتية عن تناول لحوم الطرائد التي احتجزت في لحمها تجليات الخوف والهلع، فيؤطر ملامحها ورموزها كولن ولسن(1) في «سقوط الحضارة»، إذ يعد وليم بليك (2) أبرز الشعراء اللامنتمين إلى واقع القسوة الوحشيّة عند الصيادين. ومن عباءة هذا الشاعر تخرج رواية «جر محراثك فوق عظام الموتى»، للمفكرة «أولغا توكارتشوك»(3 )، فتسرد من خلال إيقاع كلماته وقائع اليوم الذي طرق فيه الصديق الوديع درب الأخطار المديد، ومضى قدما في وادي الهلاك. لتتسربل الرؤية الإبداعيّة بالغضب الذي يفارق صفته كأحد الخطايا التوراتيّة المذمومة، ويكتسب توهّجا يقارب القداسة، إذ يجعل الذهن صافيا، ويوسع نطاق الرؤية، ويعصف بالمشاعر الأخرى فينحيها، مسيطراً على الجسد، ويغدو مصدر كل حكمة، لامتلاكه القدرة على تجاوز كل الحدود. 

    ويمكن نسب هذه الرؤى الغرائبيّة لدى المؤلفة، التي تتخفى بضمير الأنا السردي العائد للشخصيّة الرئيسيّة، إلى تفكير شمولي بماهية الإنسان الشرير، يقود إلى تجاهل التفصيلات الذهنيّة المعتادة والأخذ بالاعتبار الناتج الإجمالي لأفعاله. بحيث تخلص إلى أن حياته لا تعود بالخير على الآخرين، وأن سكته التي يسير عليها تمثل خطرا على المخلوقات البشريّة وغير البشريّة. وهو ما يشكل مدخلا لمقاربة اختلال العقل المفضي إلى الجريمة العادلة، بمعنى العقاب الإلهي الذي نفذه نبوخذ نصر بحق المتمردين، كما رآه كتبة التوراة القدماء، وكما توهمه جاك السفاح في رواية «طقوس في الظلام» لكولن ولسون، وكما نفذه الصديق الوديع. ومن ثم، تجسد الرواية صرخة احتجاج ضد «آليات عمل نظام الاسترقاق الخبيثة»، وتمرّداً على العيش داخل «مقبرة كبيرة»، تجعل من جسد الإنسان سجناً، لا يعرف كيف يعيش من دونه.

    يتلبس الصديق الوديع بإهاب مهندسة جسور متقاعدة ومسالمة، تدعى السيدة دوشيكو، تدافع عن حق الكائنات العزلاء في كرامة الحياة، سواء كانت بشريّة أم غير بشريّة. فتستوي عندها معسكرات الإبادة الجماعيّة، التي تشكل وصمة عار في تاريخ بولندة، مع المنابر التي تنصب لاستدراج الطرائد البريّة كالغزلان والثعالب، ومن ثمَّ قتلها بطلقة في الرأس، بحيث يصبح الصيد الجائر معادلا للتصفية الجسديَّة لأسرى الحرب العالمية في تلك المعسكرات. وحين يموت جارها الصياد، مختنقا بعظمة من ضحيته، تفترض حدوث طلاق ميتافيزيقي، يطلق الروح من إسار المادة فتغمرها السعادة، ويحرر المادة من تلك الروح فيغمرها الارتياح. ويحل العقاب بالصياد المتشيطن، ولو من دون يد توجه الموت وترشده.

    ومثلما كانت واقعة مقتل الإله ـ الخنزير، في فيلم «الأميرة مونوموكي» للمبدع الياباني هايو ميزاكي، بطلقة بندقيّة من السيدة إيبوشي، مدخلا لإشعال فتيل الحرب المقدسة بين المدافعين عن حق الحياة وأصحاب البنادق، كذلك يلهب خنوص محتضر مشاعر الغضب لدى دوشيكو، فتهاجم مدير الشرطة بكلماتها الساخطة ضد ممتهني الصيد الجائر. وبينما تهيج الطلقة حقد الإله المحتضر، فتصيب لعنته الأمير أشيتاكا، وتحوله إلى حكيم يدافع عن الوجود المنتهك تحت أعقاب البنادق، تصبح المهندسة معادلاً لراسكولينكوف في «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي. لأنَّ الحكمة في الشرق الأقصى تتماهى بإدراك صحيح بتلازم مبدأي الحياة والموت في صيرورة الإله الغزال، بينما تتلبس في العالم الغربي بقسوة الانتقام الذي نلمسه في أشعار بليك المستخدمة في الرواية كنقاط علام، تقود ثنائية الجريمة والعقاب؛ الأنموذج الأنصع في عالم المادة المتوجة بالشهوة المتعاظمة للمتعة.

    توظف توكارتشوك دراستها لعلم النفس في إضفاء نكهة كوميديّة على روايتها المجبولة بقسوة الحقيقة، فتلطف سلبيّة أبطالها المسنين، بالاتّكاء على عادة القرويين في منح الأشخاص ألقابا مضحكة عوضا عن أسمائهم التي قد يكنون لها الكراهية، فيصبح لقب أحد جيرانها القدم الكبيرة والآخر غريب الأطوار.. وتعزو تلك الغرابة إلى ظاهرة «‌توحد التستوستيرون»، الذي يصيب الكثير من الرجال، مع التقدم في السن، والذي تتبدى أعراضه بالتراجع التدريجي في الذكاء الاجتماعي والمقدرة على التواصل الشخصي. بالمقابل، تعزو تجاهل المأمور لاحتجاجات دوشيكو إلى نفاذ الصبر الذي يتم التعامل به مع المتقدمين في العمر..

    تتخذ كلمة الأسى في قاموس دوشيكو أهمية بالغة في تعريف العالم، إذ تدخل في أساسيات كل شيء، وتغدو العنصر الخامس. ولأنَّ الكثير من الحوادث تقدم أوجهاً مختلفة للحدث المفرد نفسه، يتحتم على المرء الإلمام بكيفيّة مطابقة الحقائق ورؤية التشابه حين يرى الآخرون اختلافا كاملا بينها. وهو ما يقود إلى التذكير بأن هناك مجريات معينة تحدث في مستويات مختلفة، منها التصرّف الوحشي تجاه الحيوانات في بلد غربي كبولندة، والذي يفرغ الديمقراطية فيها من معناها، ويؤجج الإحساس بالفجيعة لدى دوشيكو على كل حيوان مزقته الطلقات، وحكمت عليه بالنزف حتى الموت. لذلك تتكئ على بليك في «خطبة لكلب بودل: الحصان على الطريق ممتهنا شقيا، يسأل السماء دما بشريا»، وتتخذ منها تشريعا لإحقاق العدالة؛ فالذي يشك فيما يراه لن يؤمن أبداً، ولو أن شكا داخل الشمس والقمر لانطفآ وزالا من السماء.

    تلفت «كارتشوك» الأنظار، من خلال خطبة دوشيكو العفويَّة أمام حرس الحدود، إلى طريقة عمل أبراج الصيد، التي تشبه أبراج المراقبة في معسكرات الإبادة، إذ يطلق منها الهواة النار على الغزلان والأرانب البريَّة، بعد استدراجها للتعود على المعالف، عبر نثر القمح والتفاح الطازج في دربها، بينما يطلق محترفو الصيد الجائر النار على كل شيء يتحرك، وخارج موسم الصيد أيضا. وتنتقد دوشيكو تسمية الأبراج بالمنابر، قبل أن تدرك صلتها بمواعظ الكاهن الذي لا يكتفي بمشاركة الصيادين نزعتهم المسعورة للقتل، بل يبارك عملهم ويعده واجبا مقدسا، يدعوه بالإماتة الوقائيَّة. 

    يجعل غياب المنطق عن هذه المحاكاة صلب القضية بـ «الاستباحة من خلال التضاد»، ويقدم مسوغا لاتهام الكاهن بالتحريض على الجريمة. لأنَّ اعترافه بأنَّ أقذر المجرمين لديه روح، بينما ينكرها على الطرائد، يعفي الصيد الجائر، الذي يجسد أحد أوجه القتل، من العقاب، فيتوقف الناس عن ملاحظته، ليصبح غير موجود.. ونفس الشيء ينطبق على محلات الجزارة التي تعلق الذبائح فلا تستوقف اعتراض أحد، ما يجعل الجريمة فعلا عاديا. وعبر هذه المقارنة تستدعي المصير الذي سيؤول إليه العالم لو تحولت معسكرات الإبادة الجماعيَّة إلى نمط سائد، لا يرى فيها أحد أي خطأ..

    وتحت شعار «كلنا مسافرون في الاتجاه نفسه، من التواكل إلى الحرية، من الطقوسيَّة إلى الاختيار الحر» توسع يوشيكو مسؤولية البشر تجاه الحيوانات، عبر مساعدة البريَّة منها على عيش حياتها، ومبادلة المدجنة المحبة والمودة، لأنَّها تعطيهم أكثر بكثير مما تأخذه منهم. ومن ثم يتحتم على الناس أن يقودوها ـ في حيوات متتابعة ـ إلى التحرر. وبذلك تفسّر «كارتشوك» قانون الفعل ورد الفعل الكوني على نحو يأخذ بالاعتبار حاجة الحيوانات للعيش بكرامة، كي تستطيع تصفية حساباتها، وإنجازها من خلال فعل الحياة والتناسل. ليصبح قتل الحيوانات وموتها في خوف ورعب مثل ذلك الخنزير البري المتروك ليتعفن، بمثابة حكم عليها بالتردي في الجحيم، الذي سيدفع العالم بأسره ليتحول إلى جحيم. فـ «هل تعجز عقول الناس عن الوصول إلى ما هو أبعد من المباهج الأنانيَّة»؟. 

    تعزو «توكارتشوك» هذا العجز إلى تعقد النفس الإنسانيَّة، التي تطورت كمنظومة دفاعيَّة تحجب القبح المحيط بالحقيقة، من خلال ترشيح المعلومات. لذلك تعنون روايتها بـ «جر محراثك فوق عظام الموتى» التي قصد «بليك» منها الإشارة إلى فعل الخريف في الطبيعة، فاستخدمتها المؤلفة لزعزعة وهم الأمان، الذي يعمي الإنسان عن رؤية ما يحدث حوله. 


الهوامش:

1 - ولن ولسن(1931 ـ 2013)، اشتهر بكتاب اللامنتمي 1956، والدين والتمرد (سقوط الحضارة) عام 1957. 

2 -  وليم بليك (1757 ـ 1827)، أهم شعراء بريطانيا، عالم لاهوتي وفيلسوف ونقاش ورسام توضيحي.

3 -  أولغا توكارتشوك: كاتبة ومفكرة وناشطة بولندية (1962)، نالت جائزة نوبل للآداب عام 2018، وهي الجائزة الثالثة في رصيدها. صدرت رواية «جر محراثك فوق عظام الموتى» عن دار التنوير 2022.