حدائق الحياة

ثقافة 2023/03/30
...

 حبيب السامر


في كل صباح اعتاد الرجل الخمسيني أن يتناول كتاباً، ويبدأ بالقراءة  ضمن برنامجه اليومي الذي واكبه منذ سنين، متنقلا بين طاولة المكتبة وحديقة بيته الصغيرة، وأحيانا في الصالة، عندما عصف الفيروس المتكاثر، المتنقل، المُهِلك بين شعوب الأرض، ضرب الناس على حد سواء، إذ كان الشغل الشاغل لجميع الوسائل والوسائط هو نشر الاحصائيات بالوفيات المتسارعة في كل بلد، وباتت عيوننا تتفحص الأرقام التي كادت أن تقتل كل من اقترب منه هذا الفيروس اللعين، حتى هلك العديد منهم من دون مصدات التنفس، وكان هذا الرجل من بين الذين أصابتهم لعنة كورونا ونجا منها بأعجوبة، متخطيا لحظاتها المربكة، ليعود إلى ممارسة حياته الطبيعيّة، وطقسه المحبّب في القراءة، يسحب كتابا من مكتبته ويزاول نشاطه اليومي بثقل كبير، ورغبة ناقصة في إكمال الكتاب، هكذا يبدو عليه دائما، كان يتألم وهو ينسى مكان الكتاب بعد أن يفرغ منه، وفي اليوم التالي وأثناء عودته إلى نشاطه المحبب يجد الكتاب في مكان تنقلاته في البيت، يتحسّر كثيرا، يحاول أن يقنع نفسه بأن الوضع طبيعي جدا حتى لو تكررت الحالة مرات.  بعد كل هذا الوقت من نزع الكِمامة، وعودة الاختلاط في الأماكن العامة والخاصة وممارسة الحياة بكل دقائقها، أتساءل: هل ترك الفيروس آثاره على ذهنيَّة الأديب والفنان بشكل خاص وأثرَ في نتاجه؟ هذا السؤال يلحُّ علينا ونحن نفتقد نتاج هذا الأديب وذاك على وجه الخصوص، وما أن نعود إلى أيامنا المخيفة حتى نعرف من أصابه، ومن نجا من إصابته، نلمح بعضهم وقد أصابه النكوص وتراجع تدفق فعالياتهم التي اعتدنا على قراءتها ومتابعتهم بشكل مستمر.

يحرص البعض على نشر القليل من نصوصه بمختلف أجناسها، هنا وقد تجد تكرارا واضحا في تناول بعض الحالات، على الرغم من سعيهم في التواصل لنشر ما يميزهم بحسب اعتقادهم ولكننا نصاب بحائط التكرار واجترار المواضيع ذاتها، ربما بفعل عطب في مخزونهم المعرفي مما أدى إلى نسيانهم ووضوح التأثيرات السلبية على توازن نشاطهم، مستندين الى عدم وجود الرغبة في التواصل والكتابة وحتى الحضور المجتمعي في المناسبات والنشاطات الثقافية، وهذا دليل على تأثرهم بما خلفه هذا الفيروس اللعين، لا سيما ونحن بحاجة أكيدة لمتابعة نشاطهم وهم يتركون عطر جملهم وكلماتهم في حدائق الحياة.

ربما يُعلل البعض ذلك بالنكوص العام الذي لازم الأنشطة المجتمعيَّة، ومنها الثقافيَّة وهي تترك ظلالها على بنية العمل الإبداعي، أقول- ربما- هناك أسباب شائكة في الحياة يحاول المثقف من خلالها أن يجد نفسه في غابة أوجاعه التي تتوه فيها أفكاره ولم تجد الصدى المناسب لما يكتبون، لتأثرها بمقياس الحياة. 

بدأت الحياة تتسرّب إلى روح الرجل الخمسيني وهو يحاول أن يعيد نشاطه في القراءة والكتابة، لردم الهوة وتجاوزها بصبر وحكمة، ويضخ الزيت في عجلة الحياة لتستمر حركتها من دون ضجة، يستثمرها في صنع واقع مضاء يشع في كل

مكان.