عندما يُزاحمُ القبحُ.. الجمالَ

ثقافة 2023/03/30
...

 أ د. باسم الأعسم


إن كل ما في الطبيعة من بحار وأشجار، وطيور وثمار، وجبال وأنهار، يوحي بالجمال الطبيعي، الذي لولاه لفقدت الموجودات ملامحها، وجدواها على الصعد الجماليّة، والعاطفيّة، والوجدانيّة، والشاعرية. وعندما يلتقي الجمال الطبيعي مع الجمال الإنساني تنشأ الوحدة الجماليّة الكونيّة، فيتحول الجمال إلى ظاهرة عيانيّة مدركة، تزيح مواطن القبح من على وجه الطبيعة.


لكن الفاجعة عندما يحدث العكس، فيتفاقم القبح في الأشياء والموضوعات والآيدولوجيات، والعادات والمعتقدات، حتى يمسي كالليل الأليل في حياتنا التي ينبغي أن تكون الأجمل، بوصفها الفرصة الوحيدة التي أتيحت للكائن الأعزل.

إنَّ مجرد إلقاء نظرة فاحصة على مفاصل وحيثيات الواقع المعيش، حيث التخلف عن ركب العالم المتحضّر في المجالات كافة، يشعرنا بشساعة الهوة الجماليّة بيننا وبين العالم الآخر، المحكوم بسياقات التمدن، والرؤى المستقبليّة الحالمة بغدٍ بهيٍّ وجميل، على الضد من مجتمعاتنا المشدودة حد اعناقها الى غياهب الماضي وفواجعه القاسيات. لا شكَّ أنَّ الدولة يقع على كاهلها العبء الأكبر في ارساء دعائم البناء والحرية والخدمات والجمال، فمن دون تفعيل البناءات الفوقيَّة كالقانون والفن والثقافة والآداب، لا يمكن الاطمئنان على مستقبل الأجيال، فحين يغيب القانون يحضر الباطل، وتنمو النزاعات، وتتفاقم الأزمات، التي تؤدي إلى مزيدٍ من الخراب والمأساة، وعندما تُهمّش الثقافة وتركن الفنون، يحل الجهل وتتنامى وتائر التطرّف، فينتعش التخلّف، وتدار عجلة التقدم إلى الخلف، وعندما ينحدر التعليم إلى هوة عميقة مظلمة، يفقد جدواه وأهدافه ورسالته.

فمنْ يشيّد المدن والطرقات والمتنزهات؟ ومن يفعّل القانون والسياقات؟ ومن يُعلي شأن الفنون والثقافات؟ ومن يُشيع الحرية والتحضر والجماليات؟ أليست الدولة ومؤسساتها المسؤول الأول عن الإعمار، مع يقيننا الراسخ بدور المواطن الواعي - خاصة - في تعزيز، وترسيخ البناء، والقانون، والجمال. وتلك هي أطراف المعادلة العادلة في تحقيق الرقي والازدهار، كما هي الحال في عواصم الدنيا الجميلة الكثار، التي شُيّدت بفعل النوايا الحسنة والأفعال الخيرة، والعقول النيّرة، فأضحت قبلة الجمال من فرط روعتها، يؤمها القاصي والداني للتمتع بفضاءاتها المثيرة للدهشة والاعجاب على الضد من مدننا الغارقة بالأوحال وبما لا يسر البال إن مطرت الدنيا غرقت مدننا وإن حلَّ الصيف غطى التراب شوارعنا.

لقد استشرت ظاهرة القبح في مفاصل حياتنا بشكل لافت، فلم يعد الأمر مقتصراً على الطرق غير المعبّدة، والبيوت العشوائيّة، والعمارات التي تفتقر الى التصاميم الجميلة، ووفرة النفايات في كل زاوية من الطرقات والأسواق، والجزرات الوسطيّة، بل تكالبت صور القبح وازيح الجمال، الذي ينبغي أن يسود، بل تعدى ذلك الى قبح يبعث على النفور والازدراء في الواقع الاجتماعي كالنفاق، والحسد، والسرقات، والمراءات، والمغالاة في الأفعال والمقولات، إلى جانب الأميَّة والتطرّف، والمخدرات وسلوكيات قبيحة طاردة للجمال، فأحالت الواقع الى لوحة سرياليَّة متنافرة الألوان، وعدميَّة الأفكار والأشكال، ولا شيءَ فيها يشير إلى النظام والتناسق والجمال، إذا ما أدركنا أنَّ الاستمتاع بالجمال يبعث الأمل في النفوس، ويخفف من أعباء الحياة، وهموم الواقع ويصعّد الطاقة الايجابية في النفس الإنسانيَّة.لذلك تجد الناس تهرع إلى المتنزهات لقضاء أجمل الأوقات، وتشاهد المسلسلات الجميلة بقصد الترويح الذهني، وتسافر لإشباع احتياجات الذات، لتقليص كثافة الآهات من جراء القبح المستشري في الواقع والحياة.

إن ما يبعث على الأسى، انعدام التغيير والتطور، فتبدو الأماكن، والمدن متشابهة من حيث تكالب الازمات، وتزايد الملوثات، من جراء شح الخدمات، الذي يفترض أن تخفف من هول المشكلات، مما يشكل ذلك دافعاً للناس كتعويض عن الخراب، والقبح، إلى سماع الموسيقى، ومشاهدة المعارض والعروض المسرحية، بوصفها مولدات الجمال، فقبل أيام لاحظنا مئات الأسر البغداديَّة مكتظة في إحدى القاعات لسماع الموسيقى في مهرجان موسيقى الافلام، وكذا الحال في تجوال الناس في شارع المتنبي، للتمتع بقراءة الكتب، وسماع الموسيقى، والندوات والتعرف إلى الفنانين والفنانات، والأدباء، كبديل عن المنغصات اليوميّة التي مصدرها الشارع ومشكلاته، والأخبار الحافلة بالانسداد وصور الجفاف والتصحر والمخدرات، والانتحار والطلاق، فمن أين تأتي السعادة للناس، وكل الأشياء تفتقر إلى الجمال؟! فالمناخ الطبيعي أصبح مصدراً للقلق والضجر، حيث الحرارة اللاهبة، والتصحر والجفاف، وأما المناخ الاجتماعي، فظواهر الفقر والتسول والأمية والطلاق، أهم ملامحه حتى ازاحت القباحات كل جميل، فتفاقمت الهجرات إلى العالم الآخر، بحثاً عن الحرية والجمال والأمل، كما قال الشاعر جاسم الصحيّح:

 لا بدَّ من عملٍ جماليٍّ لوجه الأرض 

قد كثرت تجاعيد المكان.

ومع يقيننا القاطع بدور الآداب والفنون والفكر وكل أشكال الثقافة في تغيير نمط حياه الناس وأذواقهم وقناعاتهم، لكن التدهور النفسي، والاغتراب الروحي من جراء تدهور الأوضاع، يعجل في تحطيم الذوات، وتفتيت الأواصر الاجتماعية، وتنامي الصراعات، وانعدام الهويات.

إنَّ إشاعة الثقافة الإنسانيَّة المنفتحة، والفكر التقدمي، ودعم الفن، وجعل الإنسان المناسب في المكان المناسب، وازدياد المساحات الخضراء، وتعبيد الطرق، ورفع النفايات، وطمر الأوحال، يضفي على الحياة لمسات جماليَّة تزيح مواطن القبح، عبر جماليات الاشكال الباعثة على الجمال كالنصب، والمنحوتات، والتماثيل، والمتنزهات.وبهذا الصدد يقول (شيللر): إنَّ أهم المهمات الثقافية اخضاع الإنسان لتأثير الشكل حتى في حياته الجسمية البحتة، لجعل هذه الحياة جمالية عن طريق ادخال قاعدة الجمال فيها كلما تيسّر ذلك، لأنّه لا يمكن تنمية الفضيلة الأخلاقيّة، إلا عن طريق استحداث حالات جماليّة، وهذا لم ولن يتحقق من دون الفن، الذي ينبغي أن يغمر حياتنا، لأنَّ الفن بلا شك هو طريق الحياة على حدِّ قول الناقد الجمالي (هربرت ريد).ودونما شك أن الطموح في رؤية مدننا وهي موشحة بالجمال، يعد جزءاً من الانتماء الصميمي والوطنيّة الحقة، إذ إن الجمال يدعونا للتشبث بالمكان، وأسمى غاية نحلم بها أن يكون عراقنا جميلاً وجليلاً في الآن

نفسه.