أصبحت كتاباتها حافزًا لنفسي.. قوّة سيلفيا بلاث

ثقافة 2023/04/01
...

  إيميلي بيري

  تقديم وترجمة: ملاك أشرف


ليست هذهِ هي المرَّةُ الأولى الّتي أكتبُ فيها عن سيلفيا بلاث أو أقوم بالتّرجمةِ المُتلاعبة لجعلها تبدو أكثر وضوحًا وسطوعًا للقارئ الذّاتيّ، الّذي يرغبُ بالتّعرف إلى الشِّعر الاعترافيّ العاريّ النّاجم عن الذّات الاِفتضاحيّة أسبق من غيرهِ. ترجمتُ أو عرّبتُ ورقةً عن سيلفيا بلاث في يناير من هذا العام وتمّ طرحها في جريدةِ الصّباح، كانت مُعنوّنةً بتأمُّلات في إرثِها، تكشف عن مُكابدةِ الاِنهيار العصبيّ المُطلق والكآبة الّتي أصبحت مادّةً للثرثرةِ بعدَ حفلةِ العشاء علاوة على ذلكَ الموت الأكثر شيوعًا من الشِّعر.

كتبت الشّاعرةُ البريطانيّة إيميلي بيري (Emily Berry)، المولودة في لندن سنة 1981 مقالةً في الحادي عشر من فبراير الماضي أيّ في ذِكرَى رحيل الشّاعرة سيلفيا بلاث، "في الذّكرَى السّتين لوفاةِ سيلفيا بلاث تحتفي إيميلي بيري بنشاطِ الشّاعرة وتألّقها ومدى قابليتها للتوثيق". هكذا اِبتدَأَت المقالةُ حينها بعدَ نصف قرن من مُغادرةِ بلاث الشّائنة.

عاشت سيلفيا بلاث مُعتمدةً على ذكائِها وكتابتِها، غالبًا ما شكّلت عزاءً وإنعاشًا عظيمًا لها، هاربة من إحساسِها المُفرط ويديّها المبتورة الّتي عبثًا تمسحُ الدّموع، غلّف الظّلامُ حياتها وسعى إلى رميها في القاعِ وحيدةً وسرعان ما ظفرَ برغبتهِ المُمزقة لسيلفيا والدّافعة بِها إلى الهلاك، رغمَ الحاصل أسّست عالمًا شِعريًّا مُبتكرًا بالكاملِ، بدءًا من صورهِا المُذهلة الفريدة وصياغتها المُسترسلة وصولًا إلى أسلوبِها الصّادم الشُّجاع، هذهِ الشّجاعةُ الشِّعريّة غير العاديّة، الّتي كلّفتها غاليًّا في النّهايةِ وختمتها بالانتحار. يا لسرعة الخيبات، حيث تقبّل بلا إنذارٍ أو أجراس لا صوتَ لخطواتِها نحوَ العبقريين كما الخسارات الفُجائيّة تمامًا.

المُقاومة ليست سهلةً فحتّى تلكَ الكتابات لَمْ تنقذ بلاث من الموت الحتمي، لَمْ تؤخّر مسوداتها المُجرّدة من المواربة والتّزويق فضلًا عن فطنتها الخلّاقة الانحدارَ المُميت أبدًا.

                        

                                                 ***

أرسلَ لي صديقٌ قبلَ بضع سنوات صورةً، يرتدي هو نفسه قميصَ سيلفيا بلاث، كانَ لونهُ ورديًّا باهتًا- لون كلّية سميث وورقة مُذكراتها الّتي خطّت الشّاعرةُ عليها الغزير من قصائدِها- وطُبعت الصّورة الأيقونيّة لبلاث في جانبهِ، مُرتديّة طوق شَعر أبيض، أعتقدُ أنّهُ كانَ أفخم شيئًا قد رأيتهُ من أيّ وقتٍ مضى.

أنا واحدةٌ من عددٍ لا يُحصى من الشُّعراء الّذينَ تطوروا؛ هوسًا بسيلفيا بلاث بعدَ التّعرف إلى أعمالِها عندَ المُراهقةِ، وأصبحت كتاباتها عاملًا مُساعدًا لي. حيث ردّدتُ أشعارها بصوتٍ عالٍ في غرفتي كما لو كنتُ أُنشدُ أغنياتي المُفضلة لدي. غرقت إيقاعات القصائد في داخليّ مثل الطّريقة الّتي غرقت بِها بلاث في أساطيرِها الشّخصيّة قبلَ فترةٍ طويلةٍ من فعل الكُتَّاب الآخرين لذلكَ.

ما قدّمتهُ سيلفيا بلاث إلى جانبِ متانة عملها لا يزالُ من الصعبِ فهمه بالنّسبةِ إليَّ، شعرتُ على المستوى الشّخصيّ بقرابةٍ عجيبةٍ معها لأنّنا فقدنا والدينا عندما كُنّا أطفالًا (هي والدها في الثّامنة من العُمرِ وأنا أُمّي في السّابعةِ سنًّا).

إذ تلقينا نحنُ الاثنين دروسَا مُبكرةً قاسية وحادّة عن وحشيةِ العالم، هذهِ الدّروس الّتي أخذناها على دفعاتٍ سريعةٍ لَمْ تكن غريبةً، بل مألوفة لمُعظم المُراهقين بالرّغم من خلفياتهم المُتفاوتة قد شعروا بوحشيةِ الواقع. رُبَّما هذا هو السّبب لئلّا تمكثَ بلاث بينَ أرجاء المنزل في السّنوات الغابرة، أدركت مليًا مصاعبَ الحياة وحساباتها وإذا يتمكن المرء من تسخيرِها إلى صالحهِ يومًا ما أم لا.

آرييل، هي مجموعة قصائد مُتنوعة وتعدّ الأخيرة لبلاث، نُشرت بعدَ وفاتِها تقريبًا، تُفسر أحيانًا في ضوءِ أو ظلِّ موتها الوشيك آنذاك. رحلت سيلفيا بلاث مُنتحرةً منذُ 60 سنة مضت اليوم، عن عُمرٍ يناهزُ 30 عامًا.

قاموا بوصفِ الظّروف حولَ حياتِها وتحليلها بشكلٍ خياليٍ وحسّاس وإن جازَ التّعبير بشكلٍ مُتلصّصٍ في السّير الذّاتيّة، المُذكرات والأفلام وأيضًا الأدب. تحبُّ الأجيال القادمة فنّانةً مأساويّةً ذات نزعةٍ سوداويّة، وهو ما اعترضت عليهِ ابنة بلاث (فريدا هيوز) بحقّ في قصيدةِ أمّي الغاضبة، المكتوبة ردًّا على فيلم 2003 عن والديها، تيد وسيلفيا: "يعتقدونَ أني يجب أن أحبّه/ بعدَ عودتها مرّةً ثانيّة/ يعتقدونَ أني يجب أن أمنحهم كلمات أُمي/ لملء فمهم البربريّ/ سيلفيا دميتهم المُنتحرة/ الّتي ستمشي وتتكلّم/ وتموت متى شاء/ تموت وتموت/ وللأبد 

تحتضرُ".

الموتُ مهما بدا تراجيديةً كبيرةً لكنهُ ليسَ إلّا جزءًا صغيرًا من الحياةِ، هُناك حقيقة لا بُدَّ منها بأن القوّة والطّاقة المُؤطّرة بالأملِ لا تُصدق في قصائدَ بلاث على الرّغمِ من الألم الّذي غذَّى كتابتها وعزَّزَ موهبتها، ديوان آرييل مترعٌ بالصّور المُدهشة والبرّاقة -ثيمات بألوانٍ مُكهربة- لا نغفل عن الزّهور بالاحمرار الخلّاب، والموسيقى بمثابةِ دقّات حوافر.

قرأتُ هذهِ الأشياء كرموزٍ لحياةِ شاعرٍ لا قدرةَ لكبتِها وإنكار المرض.

حرصت آخرُ كاتبة ومُترجمة لسيرةِ بلاث الذّاتيّة هيذر كلارك (Heather Clark)(1) أن تتخذَ حياة الشّاعرة وليسَ موتها القوّة الدّافعة لكتابِها المُذنّب الأحمر، المأخوذ من قصيدةٍ لبلاث، قيل إن كلمة المُذنّب أتت من كلمةٍ يونانيّةٍ قديمة تعني (نجم طويل الشَّعر)، قصيدة عن العودةِ من الموت: "من الرّمادِ/ أرتفعُ بشَعريّ الأحمر".

تستحضرُ الشّاعرةُ تشبيه ملكة النّحل لوصفِ نوع من نهضةِ الذّات فتكتبُ: "ظنّوا أن الموت يستحقُّ كُلّ هذا الشّقاء، لكنني/ أملكُ نفسًا للتعافيّ/ ملكة".

بينما نحتفي بذِكرَى سيلفيا بلاث في ذِكرَى وفاتها، علينا تكريم روح القيامة هذهِ، واستعادة الملكة لا مناص.



هامش:

(1) هيذر كلارك: أستاذة الشِّعر المُعاصر في جامعةِ هدرسفيلد البريطانيّة، أكثر المُتخصّصات اليوم في شِعرِ وحياة الشّاعرة الأميركيّة المُنتحرة سيلفيا بلاث، صاحبة الفنّ المُشتعل.

في حوارٍ جرى يومًا مع هيذر كلارك سألَ المُحاورُ سؤلًا كالآتي: تُدرِّسين الشِّعر في الجامعة، هل لا يزال الطلّاب يحبّونَ قصائد بلاث؟

أجابت كلارك حينئذٍ بـ: "قطعًا، تثيرُ بلاث كثيرًا من الشّغف لدى قرّائها، وأشعرُ أن هناك حبًّا عظيمًا يربطهم بها، كأنَّها نجمةُ بوب في سماء الشِّعر، والنّساء منهم على وجهِ الخصوص. في الأسبوع الماضي، وأثناء مُحاضرة لي حول أدب السّيرة الذّاتيّة، سألني أحد الطّلاب: لماذا يجب على الرّجال قراءة سيلفيا بلاث؟ فوجدتني أردُّ: ولماذا علينا نحنُ النّساء أن نقرأَ هيمنغواي، أو تي إس إليوت؟ لكنّني فهمتهُ، لقد كانَ فضوليًّا حقًّا بشأن ما يمكن أن يتعلّمهُ الرّجال من مثل هذهِ الأيقونة النّسوية".

(2) ترجمتُ المقالةَ المكتوبة من قبل إيميلي بيري بتصرّفٍ نوعًا ما.