بيئة السارد الواقعيَّة

ثقافة 2023/04/01
...

  عمار حميد مهدي


كيف تؤثر البيئة الواقعيّة المحيطة بالسارد على أعماله الأدبيَّة؟ وكيف تُسبَك الشخصيات في العمل السردي تحت تأثير المحيط الواقعي على كاتب ذلك العمل؟ في الحقيقة أن أغلب الأعمال الأدبيّة التي يكتبها كتّابها تكون تحت تأثير بيئتهم المحيطة بهم ومستقاة أو مستوحاة من تجاربهم التي يمرّون بها مع الأفراد المحيطين بهم أو مع المجتمع الذي يعيشون فيه. 

كتب دوستويفسكي وأبدع في كتاباته عن البؤس والفقر الذي كانت تمر به الطبقات الوسطى من المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر لأنّه عاش وخاض تجارب ومواقف مرّت به في تلك الحقبة، وكتب ارنست همنغواي روايته (وداعاً للسلاح) مستوحيا أحداثها من تجربة خدمته العسكرية في الحرب العالمية الأولى. إنَّ الرواية السرديَّة أشبه بسجّادة منسوجة تتكون من ثلاثة خيوط رئيسة هي البيئة المحيطة وخيال السارد ومهارته السرديَّة، حيث يأخذ الخامة الرئيسية من مجتمعه مندفعاً في خبايا ذاكرته مستدعيا الأحداث القريبة واللحظات الملفتة، ويبدأ خياله كالشجرة اليافعة بالنمو من هذه الخامة الواقعية.. أي أن الخيال في هذه الحالة يكون جسراً يربط ما بين الواقع والصور المختزنة في الذاكرة.

تتألف المادة الواقعية التي تحيط السارد من مزيج عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية معاصرة، وهذه العوامل تكون أقوى تأثيراً على إدراك القارئ في فهم أحداث الرواية، وتلقيها مقارنة مع العامل التاريخي الذي يستعين به السارد في محاولة لإدخال رؤية مستقبليّة يجرّب إسقاطَها ضمن مجرى الحدث فاللحظة الآنية الواقعية هي الأكثر جذبا والأكثر مضمونا. وفي ذلك يقول الكاتب والروائي البرازيلي باولو كويلو (أنا لا أعيش في الماضي أو في المستقبل.. أنا لا أهتم إلا في الحاضر)، لذلك يسعى السارد من خلال صياغة الواقع الذي يعيشه عبر السرد أن يجعل ذلك السرد أداةَ تعمل على أحداث تغير في هذا الواقع، وهذا ما يبينه الكاتب المسرحي الألماني (بيرتولد بريشت) عندما يقول (ليس الفن مرآة ينعكس عليها الواقع، بل هو المطرقة التي نشكّل بها الواقع). في الماضي كانت الأعمال الأدبيّة التي يكتبها مؤلفوها تتصف بالرومانسيّة والفانتازيا متجاهلةً معاناة المجتمع الإنساني مقتربةً في سردياتها إلى المثالية والقيم الرفيعة، وكان هؤلاء الكتاب سجناء خيالهم وأحلامهم منفصلين تماماً عن الواقع الذي كانوا يعيشون فيه مما انتج أعمالا تهدف إلى مخاطبة وعي الإنسان ودعوته للارتقاء بنفسه من دون النظر إلى الحالة الواقعيّة التي يعيشها والظروف المحيطة به مما ينتج نوعاً من الصدمة والخذلان لديه ولكن الاتجاهات الأدبيّة 

والسرديّة بأنواعها المختلفة ازدادت تركيزا في نتاجها الأدبي الواقعي، وعرض المعالجات فيه بعد الثورة الصناعية وازدياد ادراك الإنسان لحاجاته الاساسية والمشكلات المحيطة به حتى أصبحت الأعمال الادبية المميزة التي يستوحي كتّابها سردياتها من محيطهم الاجتماعي المعاصر هي سمة عصرنا الأدبي الحالي.