التصنّعُ

ثقافة 2023/04/01
...

 محمد صابر عبيد


تتحرّك الطبيعة الإنسانيّة في معظم أنشطتها البشرية على نحو عفوي غالباً - ولا سيّما تلك التي تتعلق بالجانب العاطفيّ من هذه الأنشطة، وهذه العفوية مبنيّة على قوانين طبيعيَّة لا بد من الاستجابة لها بما يناسب الفضاء العام والجو العام والمزاج العام والثقافة العامة، لأن مخالفة ذلك ومحاولة كسره ينقل النشاط من طبيعته البدهيّة إلى صورة من صور التصنّع الخارج على السائد والمألوف، على النحو الذي يجعل الصورة قلقة حين تفتقد حيويتها لصالح رؤية غير طبيعيَّة وغير منطقيَّة أحياناً، يتدخل فيها وعي الإنسان أبعد مما يجب بما يؤثر في سلامة الصورة وعلى حيويَّة أفعالها.


تعود حالة التصنّع لدى الإنسان إلى مرجعيّة نفسيّة عميقة الجذور وبعيدة الغور في الذات البشريّة، تتعلّق بنقصٍ معيّنٍ يشعر به إلى درجة القلق والحيرة وعدم الاستقرار؛ فيُضطرّ أزاءه إلى التصرّف خارج قوس الطبيعة الذاتيّة، نحو إيهام الآخر المتلقّي بصفات وخصائص وسمات شخصيّة لهذا الإنسان تتجاوز حالته الطبيعيّة، وتصطنع صورة أخرى قناعيَّة تأتي من فعاليّات غير صحيحة وغير أصيلة تفتعلها الشخصيَّة لفرض هذه الصورة، غير أنّ حركة التصنّع هذه سرعان ما تُكتشَف ليتبيّن زيفها وتُفتضَح حركتها اليابسة الخالية من ماء الوجدان، وعندها تنتقل حالة التصنّع إلى خارج عمليّة التفاعل بين المُرسِل ومجتمع التلقّي بوصفه مرسَلاً إليه، وتفقد قدرتها على التواصل الطبيعي المطلوب بينهما.

يضطرّ المتصنّعُ إلى إلباس ذاته لبوساً غريباً عليها أكبر وأوسع من حجمها، وتحميلها وزر هذا اللبوس حين يطلب منها التصرّف خارج مداها الطبيعيّ المناسب، إذ يتوجّه نحو مناطق ليست ضروريّة له فيقتحمها بزيّ غير زيّه تلبية لرغبة مجنونة بالعبور من فوق شخصيّته التقليديّة، ويقوم بسلسلة أفعال لا تنتمي إليه بل يسعى فيها إلى تقليد آخرين يشعر بنقص أزاءهم، ولا تجلب مثل هذه الممارسات سوى الضحك والسخريّة بوصفها ممارسات شاذّة ليست على مقاسه وغير معدّة أساساً له، على النحو الذي يجعل شخصيّته أضحوكة في الوقت الذي يجتهد فيه لإثبات شخصيّة أخرى غير شخصيّته ولا تمتّ إليه بصلة.

يحصل في هذا المجال أن تصل الشخصيّة إلى مرحلة من الوهم تحسب فيها أنّ الشخصيّة المصنوعة هي شخصيّتها الحقيقيّة، عندها يبدأ المرض بالعمل فينكسر القناع وتتحوّل الشخصيّة إلى شخصيّة مريضة تستجيب لإرادة مرضها على نحو مطلق، ويمكن أن يكون العلاج في هذه المرحلة صعباً للغاية حين يقوم المريض بالدفاع عن مرضه والسعي إلى تكريسه بقوّة، فتنسى الشخصيّة كلّ ما يتعلّق بحقيقتها وتلعب دور شخصيّة أخرى لا تمتّ إليها بصلة حيث تموت الشخصيّة الأولى وتحلّ محلّها شخصيّة جديدة.

تبدأ حالة التصنّع أساساً من بروز حاجات صغيرة تافهة لا تلفت الانتباه؛ تتصوّرها الشخصيّة الناقصة الهشّة -الباحثة عن أمجاد بائسة- كبيرةً ومهمّةً على سطح عملها، فيضطرّها ذلك إلى التحرّك خارج مساحة الشخصيّة على نحو تهملها فيه تماماً وتتنازل عن خصوصيّتها، لتبحث عن مميّزات لها خارج كونها الطبيعيّ ولا تتلاءم مع وضعها الكيانيّ من الجوانب جميعها، وهنا تحصل المفارقة في الذهاب إلى منطقة التصنّع ومعاندة الذات للحصول على شخصيّة أخرى لا يمكن أن تكونها، ممّا يشوّه أيّ عمل تقوم به هذه الشخصيّة لأنّه لا يقوم على مقدّمات صحيحة؛ ومن ثم لن ينتهي إلى نتائج صحيحة أيضاً. تقوم فكرة التصنّع على وضع حاجز قاهر بين الذات والآخر، تحجب فيها الذات -قدر ما تستطيع- صورتها الحقيقيّة عن الآخر في سلسلة تمويهات تجعل كينونة الذات غامضة ولا تمنح نفسها للآخر، لتكون هذه المرحلة مقدّمة كي تعمل الذات على استبدال خصائص ومميزات وسمات هذه الذات، واستجلاب أو استدعاء صفات وسمات وخصائص مغايرة تحلّ محلّها لصوغ ملامح لشخصيّة غيرها، في عملية إقصاء وتهميش ومحو الذات الحقيقيّة لصالح ذات أخرى مرتجلة ومفتعَلة يجري العمل على صنعها قسراً.

تنتهي فكرة التصنّع إلى التلاشي والمحو طالما أنّها فكرة مزيّفة وغير حقيقيّة في أيّ طبقة من طبقاتها، وربّما يدرك صاحب الفكرة أنّ فكرته إلى زوال حتميّ -طال الزمن أم قَصُر- لكنّه لا يستطيع تجاوزها لفرط هيمنتها على مقدّراته، فهي حين تتسلّط على من تنقصه أشياء كثيرة في تركيب شخصيّته لا يجد نفسه إلّا وقد صار رهينة للفكرة، فما يلبث أن يباشرها من دون أدنى تفكير ويستمرّ بلعبتها وكأنّها لعبة مصير لا بديل لها.

تختلف لعبة التصنّع بين لاعب وآخر بحسب خبرة اللاعب ومهارة لعبه وفهمه لآليّات تشكيل اللعبة وتنفيذها وممارستها، فلاعب يحسن اللعب بحيث تقترب لعبته من دائرة الحقيقة ليتمكّن من إقناع كثيرين بأنّ ما يفعله يعود إلى شخصيّته الحقيقيّة، وآخر يخفق في ممارسة لعبته فينكشف أمره من أوّل وهلة إذ يبينُ زيفَ ما يدّعي على نحو يخالف الحقيقة، لكنّ الفرق بين هذا وذاك هو فرق زمنيّ وقتيّ لا غير، الأوّل يطيل حياة اللعبة كي تمتدّ زمناً يعيش فيها المتصنّع جزءاً من نجاح لعبته، والثاني لا يتنعّم كثيراً بقصر حياة لعبته إذ سرعان 

ما تظهر عيوب التصنّع فيها فتنتهي إلى سراب لا ماء فيه.