جاستون باشلار في فلسفة العلم

ثقافة 2023/04/01
...

 عبد الغفار العطوي


في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي واجهت الفلسفة الغربية مأزقاً كبيراً كاد أن يؤدي بها إلى الانزلاق نحو الوقوف عند قضاياها الميتافيزيقية الفارغة، وأن تصبح مجرد حقل معرفي يجتر نفسه، وهي تنظر إلى العلم وهو يتوسع بآفاقه، وقدرته في التأثير على العلوم الإنسانيّة، التي كانت بالأمس القريب تحت وصايتها، فأدركت ضرورة مغادرة أطرها التقليديّة في المعرفة والتفكير، واللحاق بعربة العلم الذي كان قد انطلق في اكتشاف عالم جديد، في باكورة أعماله تجريد كل العلوم التقليديّة، بما فيها الفلسفة من مسلّماتها الكلاسيكية، وكانت الفلسفة أكثر حقول المعرفة الإنسانية حاجة لكي يعريها العلم من ثوابتها القديمة، وتتخلص من رؤاها الاسكولائية التي فشلت في تقدم الفلسفة بالشكل المطلوب، فقام بعض فلاسفة الحداثة في التقريب بين العلم والفلسفة، خاصة من المذهب التجريبي، الذي مال نحو إنجازات العلم مثل كونت وراسل وفريغه وفتغنشتاين ووايتهيد ومور وباشلار الخ. وأنتج هذا التقارب مسارين هما فلسفة العلم، والفلسفة العلمية، وكان الفرق بينهما ليس في طريقة التقارب، إنما في نوعية المعطيات العلمية التي يسعيان نحو تناولها في قراءتهما. 

1 -  فلسفة العلم أو العلوم؛ الابستمولوجيا المسار الفلسفي في الجمع بين الفلسفة والعلم لصالح الوعي الفلسفي، ومصطلح (الابستمولوجيا) قد شاع استعماله مقابل نظرية المعرفة، من حيث كونها أشمل من نظرية المعرفة، في أنها تضم لها  نظرية المعرفة العلميّة، بما فيها عملية التفكير والقراءة عند المفكر، وفي سياق التفكير القائم على الفهم والتأويل، لهذا السبب فمصطلح (ابستمولوجيا) استعيض به في الفكر الغربي، ليعني مساحة أوسع في المعرفة التي شغلتها فلسفة العلم بعد ذلك (الابستمولوجيا) ويمكن أن تتسم بأنها قراءة معرفيّة لما ينجزه العلم في العقل العلمي، فوظيفة العلم فيها تستند الى قاعدة فلسفيّة نظريّة تشمل تدخل العقل في وضع طريقة نظرية عامة لسير العلوم.                  

ووظيفتها تحليل المصطلحات العلمية التي يكتشفها العلم في دعم قدرات العقل البشري، فهي فلسفة تصف منجزات العلم كونه وعياً إنسانياً في ظواهر الوجود العامة، فالعلم والعقل  يقفان أمام تلك الظواهر، لتكوين فينومينولوجيا للوعي في تعبير جاستون باشلار (1884- 1962).

2 -  الفلسفة العلميَّة: وهي الفلسفة المختصة في العلوم البحتة، وتتعامل مع المصطلحات الخاصة بالعلم في كشوفاته، ومن ثم هي تدرس كل تلك المعرفة التي يقر العقل بإمكانية تحقيقها من وجهة نظر فلسفيّة ومنطقيّة، وتختلف عن فلسفة العلم، بتخصصها الشديد فهي فلسفة مصطلحات تتسم بصيغتها الواقعيّة والموضوعيّة والمنطقيّة، وعلى ما يبدو أنّ الاختلاف بينهما يمثل اتجاهاً في المقاربة بين الفلسفة والعلم، أو النأي عن بعضهما، والفيلسوف الفرنسي المعاصر جاستون باشلار يعرف بأنّه فيلسوف ظاهراتي أسهم مساهمة فعّالة في فلسفة العلم، ودفع به نحو آفاق واسعة عبر كتاباته، وينظر الباحثون إليه كفيلسوف علم يجمع بين العقلانيّة والتجريبيّة، وأهم الفلاسفة في المجال العلمي في عصرنا، ولا أحد ينكر ذلك، بل المدى الواسع في اهتمامات فلسفته ناحية المعارف الأخرى المتعلقة بالفن والشعر، وفينومينولوجيا الخيال يمكن اعتبارها من عبقريته، وشهرته على نطاق واسع، ليصبح من أبرز الفلاسفة الذين جنحوا إلى دراسة العلم والشعر بمنحى فينومينولوجي الوعي المتمثل بالجمع بين العقل والروح، ويظل باشلار في مجال فلسفة العلم سباقاً في طرح المشكلات المعرفيّة التي تواكب مسيرة العلم في تطوره المعرفي المستمر؛ لذا هو أولاً كان يرفض فصل العلم في دراسته عن تاريخ العلم، فضلاً عن أنه وضع وجهة نظره في فهم كيف نستطيع الفلسفة أن تحقق تقدماً في ما يقدمه العلم من رفد في المعرفة؟.

 فلا نستغرب في تأثر إلتوسير به في دراسته لفلسفة ماركس، بإبراز الفهم العلمي للماركسية، والتمييز بين كتابات ماركس الشاب والنضج، وفي تأثير باشلار على إلتوسير الكبير في دراسة كتاب ماركس (رأس مال) بعلمية استقاها منه، بيد أن باشلار أسهم في مجال معرفة العلوم، واشتهرت مفاهيمه في ذلك كالقطيعة الابستمولوجية، والقطيعة المعرفية والعائق المعرفي إلخ، تلك المفاهيم الباشلارية المعرفية التي نشطت  المعرفة العلمية، ولهذا أخذ لويس التوسير على سبيل المثال (القطيعة ابستمولوجية) في تمييزه بين المنظور العلمي والإيديولوجي لـ (رأس مال) ماركس باتجاه نظرة باشلار، وإن كان مغايراً، فقد اعتبر التوسير تلك القطيعة هي عبارة عن انتقال في طريق العلم، بينما عرف باشلار القطيعة الابستمولوجية هي دراسة المعرفة العلميّة التي يسمح بها العلم انطلاقاً من العلم نفسه، لهذا نرى أن الفارق بين باشلار والتوسير في سعة اعتماد باشلار وثقته واستيعابه لمعطى العلم، لتأتي بقية المفاهيم المعرفيّة لإيضاح العلاقة بين مجالي الفلسفة والعلم، وقوة الترابط بين المعرفة التي يبتكرها العلم وتتوسع في إدراكاتها في الفلسفة.

في قراءتنا لمؤلفات باشلار مثل (العقلانية التطبيقية) و (الفكر العلمي الجديد) نلحظ تركيزه على المعرفة في المعطى العلمي، لأن الجهد التوسعي الذي يطالب به باشلار، إنما يعني في الأساس الوقوف على المنعطفات الكبرى التي عرفتها بعض المعارف العلمية، ويبقى باشلار في نظرته الفلسفية للعلم يعتمد على ما ينجزه العلم من تطور وفق التحولات المعرفية المستمرة التي تؤدي نحو تصحيح معرفة سابقة، أو كما يقول باشلار في أنه يحكم على ماضيه التاريخي بإدانته، وإن بنيته هو الوعي بأخطائه التاريخيّة.