الصين تقارع الغرب للفوز بالمواد الأوليَّة

بانوراما 2023/04/01
...

  هاينر هوفمان وأرسين مبيانا

  ترجمة: مي اسماعيل


تحوي جمهورية الكونغو الديمقراطية ما قد يكون أكبر مخزون لرواسب عنصر الليثيوم في العالم، وتسعى الصين متحفزة لوضع اليد على ذلك المورد الثمين؛ لكن الامتياز يخضع لسيطرة شركة أسترالية. أما السكان المحليون المتلهفون لفرص العمل فيأملون أن ينتهي الصراع سريعا لصالح بلدهم. 


تقع مدينة مانونو الصغيرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، على مسافة بعيدة تقطعها في غضون يومين بالسيارة من أقرب مدينة كبيرة، وباتت التركيز ينصّب فيها اليوم على السياسة العالمية. والتساؤل هو: «من الذي يجب أن يُسمح له بالوصول إلى معادن المستقبل الموجودة تحت أقدامهم؟ هل هم «الصينيون» أم «الغربيون؟»». يقول الجيولوجيون إن الارض تحت أقدام سكان مانونو قد تضم أكبر خزين لليثيوم في العالم، لم يُمس بعد. ومن بين الوثائق القديمة لإدارة المناجم البلجيكية السابقة هناك دراسة جيولوجية تعود للعام 1952، وردت فيها عبارة واحدة عن وجود «الإسبودومين»؛ وهو معدن يحتوي على الليثيوم. في ذلك الوقت كان الإسبودومين عقبة كأداء في طريق إدارة منجم القصدير؛ إذ كان يُعتبر أساسا نوعا من الفضلات المُعرقِلة. لكنه اليوم واحد من أكثر المواد الخام التي يبحث عنها العالم، ويعتقد الخبراء أن الطلب عليه سيتجاوز العرض إلى حد كبير خلال وقت قريب. 


حلم الرخاء

يعد الليثيوم عنصرا حيويا يدخل في صناعة بطاريات تشغيل السيارات الكهربائية وأكثر من ذلك بكثير. ومن دون الليثيوم لن يكون التحول من الوقود الأحفوري ممكنا. لذا ارتفع سعره إلى درجة انفجارية خلال السنتين الماضيتين. يقول «نايجل فيرغسون» المدير التنفيذي لشركة التعدين الاسترالية (معادن AVZ): «يمكن لمدينة مانونو ان تلعب دورا مهما في تجهيز الطلب العالمي لليثيوم». حتى أن البعض قال ان السيطرة على مانونو سيُترجم الى السيطرة على أسعار السوق العالمية لليثيوم. وهذا يعني ان سكان مانونو يمكنهم العيش في بحبوحة وينعمون بالترف. ولكن بما أن هذه الآمال ليست هي الحال الآن؛ فقد اجتمع السكان  في قاعة المجلس المحلي لينفسوا عن غضبهم، متطلعين الى غد أفضل. يقول أحدهم: «لماذا لا يحدث أي شيء؟ نحن نريد العمل». يجلس أمامهم «بالتازار تشيسيكي»، وهو رئيس شركة «داثكوم- Dathcom» المشتركة، التي كان من المفترض أن تبدأ استخراج الليثيوم وبيعه منذ عدة أشهر. يتلقى تشيسيكي أجره من شركة «معادن AVZ» الاسترالية؛ التي تملك غالبية أسهم داثكوم. يستمع تشيسيكي (الذي يسميه الأهالي- المدير) بصبر الى إحباط الحاضرين، لينهض أخيرا ويخاطبهم قائلا: «الحكومة ببساطة لا تعطينا رخصة التعدين، ولا يُسمح لنا ببدء العمليات الآن». 

شرح تشيسيكي للحضور الخطوط العريضة للنزاع؛ وهي محاولة معقدة نوعا ما.. فشركة «معادن AVZ» الاسترالية على خلاف ميؤوس منه مع شركائها؛ وأحدهم رجل الأعمال الصيني «كونغ ماوهواي»؛ الذي يسميه الجميع في الكونغو: «سايمون كونغ». يسود الاعتقاد أن لهذه الشخصية اتصالات سياسية ممتازة؛ في كل من بكين والعاصمة الكونغولية كينشاسا معا. وهو شخصية مثيرة للجدل للغاية، ومتورط في العديد من الصفقات المشبوهة التي تعاني منه هذه الدولة الأفريقية. كانت شركة «داثومير- Dathomir» التي يملكها كونغ تُمسك غالبية أسهم إمتياز مانونو حتى العام 2017؛ وهو امتياز قيّم جدا، كما بات واضحا. ثم جاء الاستراليون واشتروا حصة مسيطرة في الامتياز من كونغ. بعد وقت قليل أحضرت شركة «معادن AVZ» معدات ثقيلة الى مانونو وقامت بأعمال حفر في الارض وعملت ثقوبا على السطح تقدر بنحو 42 كيلومترا ، لتجد أن الليثيوم تحتويه الصخور الغنية في كل مكان تقريبا؛ وكان سمك بعض الطبقات نحو 350 مترا. ثم نشرت الشركة نتائح حفرها الاختبارية بحلول عام 2019.. يمضي تشيسيكي قائلا: «بعدذلك النشر إنفتحت علينا أبواب الجحيم، واتصلت بنا كل شركة صينية تعمل في سوق الليثيوم». 


أكبر اللاعبين

ينظر إلى الصين بوصفها اللاعب الأكبر في صناعة الليثيوم، وتعتبر شركة «CATL» الرائدة عالميا في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، وقامت للتو ببناء مصنع ضخم جديد في ولاية تورينجيا الألمانية؛ وهو الأول خارج الصين. هنا أيضا أصبح الليثيوم المستخرج من مانونو مطلوبا بشدة. وليس سرا أن الصين ترغب أيضا بالسيطرة على امكانيات الوصول الى المواد الخام؛ وتمثل مانونو فرصة ممتازة للقيام بذلك. كانت المساعي الصينية ناجحة في البدء؛ إذ إن تعدين الليثيوم مسألة مكلفة، وكان الاستراليون قد احتاجوا الى مبالغ كبيرة لاستخراج المخزون. ولهذا الغرض أبرموا اتفاقا في العام 2021 مع  شركة تابعة لعملاق البطاريات «CATL»؛ استحوذت الشركة الصينية بموجبه على حصة 24 بالمئة من مشروع الليثيوم المشترك على أن يكون المقابل هو 240 مليون دولار نقدا للبدء بالتشغيل. في حينها لم يكن أحد مهتما؛ ودار الحديث عن فكرة «أصدقائنا من الصين». كما وقّع الاستراليون أيضا ثلاثة عقود تجهيز كبيرة مع شركات صينية؛ رغم انه لم يجرِ استخراج طن واحد من الليثيوم تجاريا من مانونو بعد. يقول فيرغسون (مدير الشركة الاسترالية): «سيسعدنا العمل مع شركات أوروبية أو أميركية؛ لكنهم لا يميلون حاليا للاستثمار في بلدان مثل الكونغو». تشعر أوروبا والولايات المتحدة بقلق متزايد من فقدان النفوذ الغربي للساحة الأفريقية، ولا ترغبان بالاعتماد على المواد الخام التي تستخرجها الصين. لكن الاستثمار في الكونغو مسألة حساسة؛ سواء من منظور اقتصادي أو أخلاقي، وكانت النتيجة أن الغرب بات خارج لعبة  السيطرة الى حدٍ كبير. 

سرعان ما انشغلت شركة «AVZ» بقضايا متعددة؛ إذ طالب «كونغ» المدير الصيني لشركة داثومير فجأة باستعادة بعض أسهمه؛ مؤمنا أنه قد جرى خداعه. وكانت هناك مشكلات اخرى أيضا؛ إذ إن شريكا آخر في الامتياز المشترك؛ وهي شركة التعدين الكونغولية «كومينيير-Cominière» (التي تسيطر عليها الحكومة لضمان حصول الكونغو على نصيبها من الثروات)، فاجأت الاستراليين حينما قامت بالتفاوض على صفقة مع شركة «تسيجين-Zijin» الصينية للتعدين المملوكة للدولة، إذ باعت بموجبها نسبة 15 بالمئة من امتياز مانونو. وهكذا جاء الآن الدور على الاستراليين ليشعروا بأنهم تعرضوا للخداع؛ فتحدوا الصفقة، وباتت القضية الآن أمام محكمة تحكيم دولية. بمعنى آخر، وجدت الشركة الاسترالية نفسها فجاة محاطة باللاعبين الصينيين من كل جانب؛ مثل شركات داثومير و»CATL» وتسيجين. في بيان صحفي تكهنت شركة تسيجين مؤخرا (بخبث) ان الشركة الاسترالية قد تفقد امتياز مانونو بالكامل في نهاية المطاف. كما تتحدث وسائل الإعلام الصينية عن.. «صراع قوى بين اللاعبين الصينيين»؛ وكأن الاستراليين لم يعد لهم أي دور اطلاقا. وتقول الشركة الاسترالية ان الرئيس الصيني «شي جين بينغ» أصدر التوجيه التالي.. «اذهبوا واحصلوا على ما يمكنكم من المعادن الحساسة».. وهذا ما نراه الآن.  


في انتظار التحكيم

يرى الاستراليون أن سكان مانونو متحدون خلف موقف الشركة الاسترالية؛ رافضين الدور الصيني. لكنه مجرد نصر صغير؛ إذ إن للحكومة في العاصمة كينشاسا رأيا أكبر بكثيرمن تلك المواقف في نهاية المطاف، إذ يعتبر الصينيون في العاصمة شركاء مُرحّبا بهم؛ فهم لا يسألون العديد من الأسئلة ولا يتحدثون باستمرار عن محاربة الفساد أو استدامة البيئة. 

لقد خططت الشركة الاسترالية لاستخراج سبعمئة ألف طن من المعدن سنويا، حتى أن سعر أسهمها ارتفع الى السقف بحلول أوائل العام 2021. لكن الابتهاج  الأولي تبدد منذ ذلك الحين، وجرى تعليق تداول أسهم الشركة في البورصة الأسترالية انتظارا لحل النزاع في الكونغو. ووفقا لتقارير اعلامية تستعد مجموعة من المستثمرين لرفع دعوى جماعية ضد شركة «AVZ»، زاعمين أن الشركة فشلت في تعريفهم بالمخاطر عند بلوغ الوقت المناسب؛ خاصة أنه من غير المحتمل بشكل متزايد أن تصدر كينشاسا رخصة تعدين.. بينما لم تُعلّق وزارة المناجم الكونغولية على الاستفسارات بهذا الشأن.


دير شبيغل الألمانية