لعبة ما بعد النص في {يوتيوب}

ثقافة 2023/04/02
...

 زهير الجبوري 

انطلاقاً من الإشارات الثلاث في مستهل رواية (يوتيوب) للروائي خضير فليح الزيدي، والتي نقرأ في الإشارة الأولى (أن تاريخ المهمشين والمنفيين الى الفضاء هو ما يسجله ويحفظه لهم برنامج اليوتيوب العظيم. سيحفظ حيواتهم من الاندثار حتما. بذلك يصبح سجل التاريخ رهين اليويتوب) ص7.. تتضح لعبة ما وراء النص السردي، ولا يمكن تأطير ما كتبه الروائي بالمغامرة بقدر ما انطوت عليه المضمونيَّة السرديَّة بالحقائق التي تبدو افتراضيَّة لكنها واقعة في صلب الحدث ودقائق العالم الرقمي في زمن العولمة وتلاشي الحدود الجغرافية عبر وسائل الاتصال.

 ولعل أهم ما يمكن إمساكه في رواية يوتيوب أنها تملكت طاقة غرائبية تجاوزت مألوفية المبنى السردي، وأخذت تغور بلغة معاصرة تلامس عصر الميديا والتواصل الما ورائي في الكتابة السردية، رغم تفاصيل الأحداث التي لا تخرج عن قناعات المتلقي او القارئ في زمننا المعاصر.

 في رواية (يوتيوب)، تكشف اللعبة السردية عند الروائي باستحداثات مبأرة وقلقة عبر استقصاء تمثيلي ـ بحسب ما أشارت إليه (ليندا هيتشون)ـ مؤكدة بأن الأداء التمثيلي يخلق استيطيقيا خاصة بالإبداع، ولعل الزيدي أفاض لنفسه الغور في هكذا اشتغال سردي، إذ ثمّة تمظهرات واقعية وشخصيات حاضرة وأحداث مرسومة، انطوت على لعبة (الشفرة) اليوتيوبية، لتكون فكرة الرواية بكليتها، هي فكرة ما ورائية، وهذا ما انطوت عليه تفاصيل الرواية التي مازجت بين الواقعة التي ستحصل باصطدام كويكب على سطح الأرض، وبين الأحداث الواضحة والمتصاعدة، ما جعلنا في دوامة قلقة لدائرة من الأحداث، منها عملية البحث عن الرجل (ثلاثي الأبعاد) ـ عبد الكريم علوان (المعلّم، ثم عالم فضاء) / كريم قدحة/ عبقرينو، وسط تفاصيل بوليسية، ثم الرجوع الى أصل نشأته (قرية أم الوسواس) وتعيّنه معلّما وهجرته الى  بلد افريقي (موزنبيق) ثم إلى اميركا، وبعض التفاصيل التقريرية عن الرجل الغامض، تناظرها تفريعات سرديّة لبعض العلاقات الاجتماعية والمهنية في سلك البوليس لبعض الشخوص (الشيخ قرطاس.. وعدنان وحبيبته ميسون، أحلام، والضابط عبد الله الراجحي، والمخبر: حمد الله الباقري.. وغيرهم)، ومع توظيف الحدث المركزي وجعل المتلقي في إيهام متواصل. ثمّة توقفات تبئيرية لتفاصيل مباشرة هي أقرب ما تكون الى دراما سينمائيَّة، الأكشن السردي وسرعة التحول فيه ترابط كبير وممتع، هذا الشدّ هو بحدِّ ذاته فن من فنون الكتابة التي يتمتع فيها الروائي خضير فليح الزيدي، والتي من خلالها استنهض بنية الكتابة إلى مناطق قابلة للتلقي والقراءة، ولم يكن السؤال السردي في الأبعاد التي امتدت إلى فضاءات واسعة وكبيرة كمسألة العيش في المريخ، سوى تركيبة سردية/ كتابية انطوت على ايغال المعنى إلى منطقة ما بعد التوقع والقبول، وهي لعبة ما بعد النص، لأنَّ جلّ ما من تفاصيل وجزئيات الأحداث وأدوار الشخصيات تتلخص في الحدث العظيم (اصطدام كويكب) ونهاية حياة الكرة الأرضية، ما ينطوي عليه وجود أمكنة أخرى، فالمكان/ الكرة الأرضية/ اصبح مكان (ديستوبي) مخيف، فكانت جميع الأحداث مهما كانت في المد والجزر، ومهما امتدت الرواية في تفاصيل الحدث والعلاقات الشخصية بين شخوص الرواية، فإنها تهدف إلى قصدية واضحة ومعبرة عن تحليل علمي فيزياوي في عالم الفضاء لتكون هناك افتراضات مقنعة وإن كان فيها متخيل سردي.

أما ما يخص التناصات الواضحة، فهي تناصات تزويقيَّة، أثرت على تكنيك الكتابة ومحاولة الإمساك بمغامرة الأداء الكتابي (ما بعد النصّي)، لأنّها باختصار تستعيد بنى الوقائع التاريخيّة، مهما كانت ذات سمة مقدسة، أو كرونولوجية بحتة، (وقد تكون ثمّة حالات من التعوق هنا وهناك، فالتاريخ أحادي الخط و تقدمي وحتمي) ـ بحسب: تيري ايغلتون ـ فضلاً عن وجود اقتباسات، وقفت تناظرياً مع فعل التناص، وهذا لا يعني أن التوظيف لم يكن بالقدر الأدائي المقنع، بالعكس، كانت مكتملة ومكملة، غير أنَّ لعبة ما بعد النص لا بدَّ أنْ تأخذ انسراحها باتجاه تقديم التفاصيل الجديدة في عالم الكتابة، كما كانت هناك انعطافة ملموسة في استعارة المثيولوجيات المستوحاة من السلوكيات الرمزية للمجتمع (القمر غلام مريض حسن الوجه) و (الشمس حوريّة مغتصبة قامت بحرق نفسها)، هذه السرديات، هي سرديات تخيلية، نتجت عن افتراضات العقل الأول، رُسمتْ فيها طوطميات وعلامات عديدة، حالة ما بعد الحداثة استعادتها ثم وظفتها بتقنيتها المعهودة لتأخذ قبولها واستثمارها، والزيدي استثمر البعد المكاني والاجتماعي لبطل الرواية وما يدور من أعراف وتقاليد في مكان نشأته.

القيامة المؤجلة، قيامة القلق المفترض، قيامة الإدراك بالفجيعة التي ستحصل، هي ديدن الرواية، وعلى إثر ذلك اخذت سلوكيات المجتمع بكل ما رسمت له من شخصيات تستنشق اللحظات الأخيرة في حياتها من خلال ما جاء به عالم الفضاء الأميركي/ العراقي الأصل، من معادلة فضائية، فقد كان أدرك ذلك له أهمية في اللعبة النصية وخطورة الفكرة وحساسية المضمون السردي، وما أخذت به أبعاد الكتابة، فإنَّ (الميتا سرد) أو (الميتا فكشن)، أزاحت الحضور الوجودي للحياة عبر الفكرة المعهودة (فكرة الاصطدام)، فهي تنبئ عن ثقافة النهاية وحتميتها، وازاحة مبدأ التدوين والتوثيق ولعبة المغامرة في التاريخ، ربما هي معادلة لقلب موازين التدوين في فن الكتابة وفن البناء السردي، فكانت فكرة ما بعد النص السردي، هي فكرة مبأرة للوهلة الأولى من خلال مبدأ التداول الشفاهي والمقدس في نهاية العالم، ثم الاشتغال في مساحة خرق المألوف عبر تمنيات وُظِفتْ روائياً كالهجرة إلى المريخ، محاولة لوجود حياة بديلة.

إنَّ استقراء بعض عتبات الرواية يوحي إلى شفرة تملكها الروائي في ذهنيته وهو يؤشر ويثبت الرقم (2030) المهمة التي أنيطت إلى الضابط عبد الله الراجحي، بتكلفة من وزير الداخلية للبحث عن الرجل المبهم، وهل يعد هذا الرقم ـ افتراضا ـ هو النهاية التقديريّة لعالم الكرة الأرضيّة؟ وفي نهاية المطاف لم يتم العثور على الشخصية المطلوبة، فكانت هناك شخصية بديلة لأحد المسجونين الذين يشبهون الرجل المطلوب، لتنتهي مهمة الضابط بسلام، لكن النهاية المفتوحة في الجملة الأخيرة من الرواية أوضحت عمق العقل المقدس في التداول الاجتماعي (وكما يحدث في هذه الحياة، كلّ مرة تؤجل انقلابها لموعد جديد) ص189. ويستمر البحث ربما في موضوعة أخرى وبسردية مختلفة، لأنها نتاج واقعنا

الحالم.