إعادة فهم النظريَّة الجماليَّة

ثقافة 2023/04/02
...

  كاظم لفتة جبر 


يتصف الإنسان بأنّه كائن متذوق، لكون تبدأ مسيرة حياته في التفاعل مع هذا العالم من خلال التذوق (الرضاعة). ثم تنمو ذائقته بالبحث عن المتعة من خلال اللعب والتفاعل مع الألوان. إلى أن يتم تأهيل ذائقته وفقاً للمؤثرات الفكرية والمادية للأسرة والمجتمع. فبناء الفرد جمالياً ينعكس بدوره على حياته الاجتماعية واختياراته الشخصية، واندماجه مع مجتمعة. لذلك اهتم الفلاسفة منُذ بداية التفكير الإنساني، وخاصة في القرن السادس قبل الميلاد من قبل الفلاسفة اليونان اهتماما كبيراً في دراسة سعي الإنسان للحصول على المتعة واللذات، إذ وجدت الفلسفة الأبيقورية في اللذة غاية الحياة عند الإنسان. لذلك قسم الأبيقوريين اللذات إلى ثلاثة أنواع: لذات طبيعية وضرورية، مثل المأكل والمشرب والملبس، ولذات طبيعية لكنها غير ضرورية التي تطلب التنوع في إشباع الحاجة، ولذات غير طبيعية وغير ضرورية مثل البحث عن الشهرة. 

وقد عانى ما عانه الإنسان القديم جراء التكيف مع الطبيعة والآخر، للوصول إلى قيام المدينة التي توفر احتياجاتهم الضرورية، فبعدما كان الإنسان في العصر الحجري يعتمد على الصيد والزراعة في توفير حاجاته الضرورية واشباع اللذات الطبيعية، فتحمل الألم للحصول على اللذات الطبيعية والضرورية، وبعد أن تكيف مع الطبيعة استغل مواردها في تكوين المدن، فسعى لتكوين نظام الدولة التي تكوّن مسؤوليتها توفير وتوزيع اللذة الطبيعية والاحتياجات الضرورية بشكل عادل بين الأفراد، وما إن حصل الإنسان على اللذات الضرورية في الحياة، أخذ يبحث ويفكر في الحصول على المتع واللذات الكماليّة التي تختلف أماكن الحصول عليها لكونها لذّات نسبيَّة، ورغبات الأفراد فيها متغيرة. 

لذلك وجه تاريخ الفكر الإنساني أنظاره صوب اللذة والمتعة، مقارنا الألم بالشر، واللذة بالخير، وأن الجانب الأخلاقي هو الذي طغى على فهم متغيرات الأشياء ومظاهرها. 

إذ كانت اللذة عدم الألم، فيمكن مقارنة اللذة بالوجود، والألم بالعدم، فسعى الإنسان إلى اثبات وجوده من خلال تحقيق الرغبات والحصول على اللذات الطبيعية، الضرورية وغير الضرورية، لذلك فقدان اللذة أو عدم الحصول عليها يولد الألم عند الإنسان. سواء كان هذا الألم مادي جسدي، يظهر من خلال العلل المرضية، أو نفسي يظهر في الذاكرة والحسد والغيرة والحقد. 

وبما أن مفهوم التذوق مرتبط بالإحساس، سوى كان بالألم أو اللذة، ويرى البعض لا يمكن معرفة اللذة من دون غياب الألم، إلا أن سقراط يرى أن أي شيء موجود في هذا العالم له غاية يكون جميل، وغاية الألم معرفة العلة والتنبيه عليها، من أجل الحصول على اللذة، فالصحة جميلة إذ تجعلنا نشعر بالرضا، بحسب ما يراه (الجرجاني) في الجمال.

فيمكن أن يوجد الألم بغياب المتعة، أو بوجودها، لأن الألم مفهوم غير قائم بذاته، بل بغيره، فألم الفراق محزن، وألم اللذة مذهل، وألم المرض موجع، وألم الرغبة شديد، وألم العمل متعب، وألم التفكير مرهق، وألم المخاض صعب. لذلك تتعدد مظاهر الألم بحسب حضوره المكاني والزماني، فالألم يمكن أن يعتري الإنسان في غياب اللذة، أو عند فقدان شيء، أو عند المعاناة والمآسي، والكوارث الطبيعية، والأمراض والأوبئة، إذ يمكن أن تعيّن معياراً جمالياً للألم من جانب أخلاقي، إذا ارتبط بالخير فهو جميل، وإذا ارتبط بالقبح كان شراً. 

وبما أن طبيعة الإنسان البحث عن المتعة، فقد يجدها في اللذة والحلو، أو يجدها في الألم والمر، فمتعة الإنسان نسبيَّة، لأنَّ ظروفه وبناءَهُ الداخلي الديني والثقافي والاجتماعي، هو الذي يحدد مفهوم المتعة عنده، فمتعة الإنسان قد تكون في تحمل المعاناة والمآسي كما يرى (نيتشه) لتصنع منه إنساناً قوياً.

ففي الفكر الكلاسيكي القديم، عن المتعة والألم، تم ربط المتعة بحدوث الاتزان الجسمي، والألم باختلال هذا الاتزان، ويعد الجوع والحرمان من النوم والمرض.. الخ. عوامل تسبب اختلالات في الاتزان، فتسبب الألم، أما عكس ذلك فيتحقق الاتزان، والمتعة للإنسان، وهذه الفكرة ترددت عند أفلاطون وأرسطو، في حديثهما عن الاعتدال، وعدم الإفراط أو التفريط، وحالة التوازن هذه نسبية، فالشيء الذي يكون سارا في لحظة الجوع والحرمان، ممكن أن يكون ضاراً في لحظة أخرى.

لذلك نظر الفيلسوف الانكليزي (هوبز) أن الإنسان بطبيعته مدفوعا نحو الأنانية والمحافظة على النفس، وحب التمتع، وأن جميع الأشياء التي نتجنبها نبرزها كشرور أو آلام، بينما الشيء الذي ندعوه خيراً نسميه كذلك، لأنه يشعرنا، إذا حكمنا عليه، بالرضا واللذة. 

فالمتعة إحساس لكن هذا الإحساس يتغير بحسب صحة الإنسان ومرضه، والمعرفة، والجهل، والتعصب، والاتباع. فمتعة الإرهابي في القتل، ومتعة الفنان في الإبداع. 

لذلك تجد الكثير من المتذوقين للفن يجدون لذتهم في الألم، والحزن، والكآبة، فتجدهم يفضلون سماع الأغاني الحزينة. 

وكذلك يتعدد مفهوم الألم بحسب غاية تذوقه، وحاجة تفاعلنا معه، فألم اللذة خير، لأنه يثيرنا، وألم الفقد حزين، لأنه يذكرنا.

وبعد أن انتقل الإنسان في عصرنا الحاضر إلى البحث عن اللذات غير الطبيعية، وغير الضرورية، من خلال الصناعة والتكنولوجيا، نجده يتحمل الألم من أجل الحصول على المتع، فيتحمل ألم عمليات التجميل لأجل إشباع رغبته بالرضا عن شكله الخارجي، والحصول على القبول من الآخر.  وبما أن الإنسان كائن يعتمد في معرفته على الإحساس والتصورات الذهنية، لذلك الصحة والمرض مؤثران على سلامة التجربة الجمالية للفرد، فالجمال ذاتي نسبي متغير بحسب المزاج النفسي، وصحة الحواس، فما تراه أنت جميلا، قد يكون مؤلما بالنسبة لي، والعكس صحيح كذلك.

فالجمال كما يرى (سانتاينا) لذة أصبحت موضوعاً، فلذة الإنسان تخضع للبواعث النفسية والاجتماعية والدينية، التي تجعله يتفاعل مع الموضوعات الخارجية ويبدي استعداده للتذوق، فكل موضوع جمالي يثير الإنسان خاضع لرغبة داخلية في نفس المتذوق، لذلك من الممكن أن تجد متعة الإنسان ولذته في إذاقة الألم للآخر، مثل لذة الانتقام، أو لذة النصر.لذلك الألم سواء كان نفسيا أو جسديا يمكن أن يكون موضوعا جمالياً إذا كان يوفر الرضا للفرد، أو الانتشاء في الممارسة، وتحقيق الرغبات الفرديّة، أو من أجل تحقيق الخير والكمال الإنساني.