الترميز والتأويل في {الزانية في يومها الأخير}

ثقافة 2023/04/03
...

 يوسف عبود جويعد


رواية (الزانية في يومها الأخير) للروائي وارد بدر السالم، تنقلنا بشكل تفصيلي وشمولي إلى البيئة الريفيَّة في جنوب البلاد، بكامل طقوسها وعاداتها وتقاليدها، وبساتينها ونخيلها، في زمن الإقطاع، لينقل لنا حادثة حدثت في القرية، تكون مثار اهتمام ومتابعة من لدن المتلقي، لما تحمل من رمزية عالية، تمنح القارئ فرصة للتأويل والوقوف على تفاصيل تلك الحكاية التي تشبه شرارة صغيرة، انطلقت لتلهب فضاء القرية وتشتعل نيران الشك والقلق والخوف من الفضيحة في كل بيت فيها.


 وتمكن الروائي من الإحاطة التامة باهتمام القارئ وزجِّه في أتون أحداث الرواية ليكون واحداً من المنشغلين فيها، كما هو الحال لسكان هذه القرية التي انشغلت بحكاية الناطور حسين وهو يعثر في بستان الشيخ على امرأة ورجل يمارسان فعل الزنا، وحاول الامساك بهما إلا أنّهما هربا، ولم يستطع رؤيتهما، إلا أنه أمسك بفوطة المرأة الهاربة وظلت عالقة بيده، واطلق عليهما رصاصة ايقظت سكان القرية على هذه الفضيحة.

يبدو لنا أن الروائي، أمسك بخيوط أحداث هذه الحكاية، لينسج لنا تفاصيل صناعة هذه الرواية، بإيقاعٍ متوازٍ محيطاً بتفاصيل الحياة الريفيَّة في الجنوب التي طغت على مجرى الاحداث، لتشكل القاعدة المكانية والزمانية وتهيمن لسحر أجوائها على حواس المتلقي.

وهكذا فإنَّ فصول هذه الرواية حملت عناوين مضامين الاحداث التي تنقل لكل فصل، فقد تلقى حسين الناطور أوامر من القائممقام بضرورة حمل فوطة الزانية والمرور بها على سكان أهل القرية في بيوتهم وشوارعهم ومقاهيهم واسواقهم وكل الأمكنة التي يوجدون فيها، ولمدة سبعة ايام حتى تظهر الزانية أو تحرق نفسها أمام الملأ. 

ويبدو لنا أن تلك الأوامر التي تلقاها حسين الناطور، صارت مصدر ازعاج كبير لسكان القرية، بل بدت تؤرقهم وتقض مضاجعهم، وتشغلهم من أي شاغل آخر، بل أنها واقصد فضيحة تلك المرأة والفوطة، صارت حكاية تتناقلها الالسن، وتحاك عليها الحكايات والشائعات، فالنسوة منشغلات بحكاية الزانية وهن يتجمعن داخل ساقية القرية لغسل الملابس، وصارت حديث الرجال في كل الاماكن:

«ينصت الى صفارتي في القرية. ثم يتتبع صداها بين الأشجار والسواقي. ويمضي على مشحوفٍ صغير كأنه لص أمِن المكان وأهله.. لا اعرف أين يمضي.. لكنني انتبهت لعد هذه الفضيحة الى ما كان عليّ أن أنتبه له، منذ وقتٍ طويل.. أنه يمضي في ليالٍ هو يختارها بعناية بعدما يطمئن الى صافرتي التي تُشغل ليل القرية حتى الفجر الأبيض”

«مرة قلتُ له: سيدي القائممقام أنت لا تثق بي كثيراً”

يحك شعره الأشيب ويُدخل وجهه الأبرص في عيني: أنا مثلك يراقبني مدير الناحية وهذا يراقبه المتصرف وذاك يراقبه الوزير. أننا حلقات صغيرة في سلسلة حكومية يا ناطور.” (ص 36) 

ومن خلال هذا المقطع المنقول نستشف تلك الاشارات السيميائية التي تحيلنا الى عملية الترميز والتأويل التي ضمنتها هذه الاحداث، فقد تكون خدعة من السلطات لإشغال الناس بهذه الفضيحة، وهي تشبه إلى حدٍ بعيد عملية تخدير لإبعادهم عن السلطة وما يحدث فيها، وقد تحمل تأويلات اخرى يجدها القارئ وهو يتابع مجرى الأحداث.

وهكذا تكبر حكاية هذه الفضيحة التي صارت تعكر صفو الحياة في هذه القرية، فمنهم من عيل صبره وقرر الرحيل، ومنهم من فقد السيطرة على اعصابه وصار يخاطب الناس، مثل شيخ الجامع الضرير الذي يريد وأد الفتنة وستر الفضيحة، ومن النساء من استخدمت الصبي ابن خديجة الحفّافة ليرى في المرايا وجه المرأة الزانية، وبالفعل يتأكد له وجه المرأة التي تشبه زوجة الشيخ، الا أن هذا الأمر ظل طي الكتمان، وظلت الفوطة تدور بيد حسين الناطور وكأنها مطرقة تدك رؤوس أهل القرية، حتى بداية اليوم السابع الذي توجه فيه أهل القرية لمقابلة القائممقام والطلب منه الكف عن هذه الفضيحة التي تسيء الى سمعة القرية وانهاء الامر الا انه رفض ذلك وأصر على اكمال المهمة. 

ومن خلال متابعتنا لأحداث الرواية، سنتابع المبنى الميتا سردي داخل هذا النص، حيث سنكون مع حياة حسين الناطور، ونعرف اسباب اطلاق كنية ابن الغريبة عليه، كون أن والده طارش، أحب امه وبعد عدم موافقة اهلها بالزواج منه، يهرب بها إلى قرية اخرى وتحمل بابنها الوحيد حسين وتنجبه في الشهر السابع، وسمي ايضاً السبيعي نسبة لشهر ولادته، وتموت امه بعد ولادته، ثم يموت ابوه بعدها ينتقل الى جدته التي تولت تربيته إلا أنها توفيت وهو صغير، فتتناقله بيوت القرية ويتولون تربيته.

وهكذا تتسع دائرة الشك، وتوجه أصابع الاتهام لأكثر من امرأة، قد تكون زوجة الشيخ، أو زوجة الناطور، وقد تكون خدعة لإشغال سكان القرية عن أحداث أهم، هذا هو ما تشير إليه الرصاصة الثانية التي انطلقت من وسط البستان، ليكون وقع صداها هو عملية الترميز والتأويل لأحداث هذه الرواية، التي اجاد فيها الروائي، نقل حياة الريف في جنوبنا في سلسلة من الاحداث المتلاحقة، بلغة سردية تنسجم وسياق الاحداث كونها مطعمة برائحة الطين الحر، وحفيف سعف النخيل، والمشاحيف، والشيخ والناطور إلى غير ذلك من الشخصيات التي تعيش في هذه

البيئة.