خديعة التاريخ

ثقافة 2023/04/03
...

 ياسين طه حافظ


هو حق للأمم والشعوب بأن تفخر بما تراه مجداً أو تراه حضارة وتفوقاً على ما يجاورهم أو يجاورها، أو على ما كان عليه العالم. لنا مثل غيرنا هذا الحق. وحقيقة الأمر نحن لم نحرَم حقنا هذا يوماً. على العكس تماماً أفرطنا وغالينا في الثناء والتمجيد. ومع إدراك العقلاء والمفكرين أو الذين هم على علم بما كانت عليه الأمة وإدراكهم لما كانت عليه حال الإدارة والحكم وحتى حال العيش والكسب، وكم من المؤسفات والعيوب كانت، إلا أن التمجيد المتوارث أو الارتياح بأن لنا بلاداً كانت بخير وشعبنا وأفراد الأمة كانوا في أزمنة خصيبة قشيبة منعمة بالعيش كما بالعدالة واحترام الحقوق.


 وتجيء أمثلة عن هذا الخليفة الذي حمل الابريق ليغسل العالِمُ يديه، وذلك الذي يتنكر ويتفقد الرعية يخشى أن يكون في خلافته أو سلطانه جائع أو محتاج أو مظلوم، إلى آخر هذه الحكايا المصنوعة ونسج الدعاة من كتبة الخليفة ومواليه. وهذه، ما وُجِدت أمثلةً إلا لتعوض عن انعدام أو ندرة أو لتكون أمنيات. وإلا فهذا الخليفة أو الحاكم، حامل الابريق لخدمة العالم، هل تعلم كم عالِماً قتل وكم مخالفاً له من الأخيار وأصحاب الرأي سفك دمه؟ وهل تعلم وهل يعلم الناس، كم من الجياع والمعوزين كانوا في زمنه؟ وكم هو أهرق من مال على لذائذهِ وماذا كان يجري في قصوره؟ ألا يكفينا أن نعرف بأنَّ عالماً جليلاً يبهجه أن يمنَّ عليه الحاكم بخلعة (ثوب) وبضعة دراهم؟ هنا اثنان كرمٌ وبذخ وهناك بؤس يومي وسوء حال. على من يستمع أو يقرأ مثل تلك الاقاويل أو الحكايا أن يسأل نفسه عن حال (العامّة) وأي بؤس كان بؤس الرعية؟ حال التاريخ يصف حواضر الحكم والنفوذ، عواصم ومقار حكم وقصور وكأنَّ تلك المدن باقواسها وقبابها تطفح امجاداً ومسرات. 

لا شيء من هذا أبداً الحقيقة غير هذه إذا أبعدنا قصور الحكام أو الخلفاء أو السلاطين والولاة وبطاناتهم فخارجها الجند والعامّة الجائعة المعوزة التي تشقى لتكسب خبزها وتتمنى العطية أن تنحرف اليها أو يجود عليهم أحد بما يعينهم على العيش، والعيش في أدنى مستوياته.

وما كانوا، كما يقولون، يرفلون بالحرير الدمشقي فلا حرير للناس ولا استبرق، وإذا فقد الثوب الخشونة فتلك نعمة. وما كانت بيوت العامة كتلك التي تتحدث عنها الأخبار وصارت من بعد شواهد تدهشنا في الآثار. لا يا سادتي لم تكن هذه بيوت الناس هذه آثار بيوت ملوك – آلهة ثم ملوك طواغيت أو خلفاء يوصون بالدين والتقوى وإسرافهم لا حدَّ له في الملذات. 

حتى معلمو اليوم يتحدثون عن المجد الباذخ والالق الوهاج والعصر الذهبي. أظننا وصلنا حدَّاً من الوعي ومن احترام الحقيقة لنتجرأ على القول إن طرقنا اليوم أفضل وخبزنا اليوم أفضل وعيشنا واطمئنانا أفضل ودواؤنا افضل ومشافينا وعمراننا أفضل ورعاية أسوأ حكوماتنا للناس أفضل كثيراً مما يكذب ويقول لنا التاريخ عن الحكام والسلاطين. 

لم يكن التاريخ، لم يكن ناس المدن باذخي الثراء والنعم ومتمتعين بالعدالة ولم يكن الناس آمنين وفي رغد كما تقول تلك الكتب وينقل ما تقول الكتب معلمو أو رواة التاريخ. نعم في التاريخ نقاط مضيئة ولكن قلتها لا تتناسب وما في التاريخ من ظلم وجوع ومجازر واشكال موت. بغداد اليوم، ومهما تكن هي أفضل مرات وأجمل وأوسع من بغداد القديمة، القديمة الحقيقيَّة، لا التي يتحدث عنها الرواة في كتب التاريخ. فهناك الكثير مما يفضح الزيف والكذب. حال العامة كان حالاً مزرياً، وغالباً ما كان فاجعاً ومخيفاً أحياناً. أما أن تكون بغداد أفضل من سواها في زمنها والرشيد أو غير الرشيد أفضل من سواه، فهذا حتى اذا صحّ، فليس كافيا لنعيد الفهم أو ليغير من واقع ومن أنظمة ومن ظروف تخلّف كانت. ليس صحيحاً ولا محموداً أن تمسَّ التاريخ بضوء من الشعر العاطفي والانحيازات القوميّة أو المذهبيّة. 

احترموا الحضارة ومستواها، الحضارة اليوم مقارنة بتلك. احترموا ما أحرز الإنسان من تقدم مدني وقولوا: «كفا لخديعة التاريخ»! 

إن فهماً موضوعياً وتقديراً لمستوى التحضر في تلك العصور، يوجب أن لا نعطي الأمور أكثر من حقها، أكثر من حجمها الذي تسمح به تلك الظروف ولا تسحبنا المفاخر والاساطير.

 أي مقارنة ممكنة بين الطب وتخصصاته وأجهزته اليوم وطب الامس؟ ومحكمة اليوم بقضاتها وادعائها ومحاميها بقاضي الامس يجلس ويحكم، يشترك في حكمه خليط الذكاء والغباء والنسيان والمزاج والكثير مما يضعف الرغبة في العدل حتى يريد المظلوم ان ينجو بنفسه خشية ما قد يزل به لسان القاضي الذي لا مرد له. وأي مقارنة بين جامعات العصر ومكتباتها ومختبراتها وما كانت عليه الدراسة او الدرس؟ الاستثناءات محترمة. كانت المستنصرية القديمة، كانت القيروان، كانت، كانت، ولكنها أمثلة معدودة. وعلى مزاياها فهي متواضعة بالنسبة لجامعات اليوم.

يوما كنت في ندوة عن فن العمارة وعن ضرورة الاحتفاظ بالهوية وبالسمات أو والملامح التراثية، بالصفات العظيمة التي تبهج وترسم مجدا. هذا ما أنا احترمه أيضا لكن الاحترام لا يغلق أعيننا عن جديد العالم عن رؤية الحضارة اليوم عن ضرورات التجديد والتغيير، وألا تتحول دعوتنا الطيبة البريئة تلك إلى دعوة للتخلف والبقاء على الحال بحجة الحفاظ على ما لا نريد خسارته. نحن نحترم القديم أكثر ونستوعبه أكثر ونفهمه أكثر عندما نتقدم وننظر إليه!

في تلك الندوة أصغيت إلى ناس أفاضل لهم الاحترام وهم بنيّات طيبة يؤكدون على ذلك. لكن ما يجب في العمارة الجديدة في رأيهم؟

 الأقواس، القباب وبعد ذلك؟

 هل فكر أحد بتصميم على شكل سفينة فضاء مثلاً، بوصلة من خلال نجمة أو وردة تشع؟ وماذا تقولون اليوم وأنتم ترون بناية البنك المركزي بعبقريَّة زهاء حديد؟

 هل نضع لها أقواساً وقبة لتكون لنا؟ 

الأقواس جميلة والقباب أجمل بالمساجد والمراقد وكما هي اسلامية، هناك أيضا أقواس وقباب في الكنائس الحديثة والقديمة والرومانية ولو اختلفت قليلاً. البشريَّة في المدى العقلي والفني والايماني غالباً واحدة، إلا فوارق بسيطة في التفاصيل. 

لا تسمحوا للتاريخ بالمزيد من خداعنا واخفاء أو تزوير الحقائق عنا. ولا ليمنعنا عن الاتصال بالانسانيَّة العظيمة الواسعة. هل أذكركم بالقول العظيم لعلي؟ أي شخصية عظيمة كان! قدْرَ ما امتلكَ ادراكاً انسانياً حملَ حزناً! وحملَ حزناً لأنه رأى سوءاً ومفاسد. تلك اذن حقيقة ذلك الواقع!

في قراءة «بحثية» لنهج البلاغة نرى العيوب الاجتماعية وفساد الناس والذمم و «محنة الرائي»! وفي قراءتنا المتفحصة للتاريخ نرى في أي بؤس ومظالم ومتاهات كان يعيش الناس، وهم يريدون قوةً وسلامةً ورضا. كانت التعاسة سائدة لولا بضعة قصور ومناطق محجوزة لمن يحكمون ولمن يحرسونهم ويوالونهم ويخدمونهم ويسلطون سيوفهم على الناس. واعدادهم المعدودة مهما كثرت لا تغير من البؤس الشامل ورداءة الطرق والبيوت وفقرها. أما التائهون في القفار والقابعون في الخيام والسقائف فهم الذين يقولون للتاريخ أيها التاريخ لا تكذب! وكفى خداعاً! كانت بيوت (العامّة) اشبه بالعشوائيات اليوم. 

الحقيقة غير ما تلهج به الناس اليوم من رفاه وأمجاد كانت، يتمنى أناس مخدوعون منا العودة لها تاركين المدن المضاءة بالكهرباء والسيارات والمستشفيات الحديثة والمطاعم والأسواق وأنواع الطعام الذي يأكلون. الرداءات الاجتماعية في كل العصور، ولكن حضارة اليوم غير ما في الازمنة التالفة. تعاسات الماضي تحول في الروايات أضواءً ساطعة

وذهباً.