بغداد: محمد إسماعيل
يتوهج فن الرسام وهو يطلق لخيال الفرشاة آفاق لوحة مفتوحة على فضاءات لا نهائيَّة، تحت هاجس جمالي يسبق فكرة التسويق أو يتراجع عنها أو... يتزامن معها كحق إنساني في العيش المرفه مما يدره ريع إبداعه.. وقد أجمعت ردود الفنانين على أن هامش الربح ليس في البال، من دون أن يغفلوا أهميته في إدامة تطلعات الرسام.
المشكلة تكمن في أنَّ اللوحة تعود إلى المخازن الرطبة في ظلام الجدران بعد انطفاء الأضواء المسلّطة عليها بانتهاء العرض...
ونفى الفنان العراقي المغترب في السويد جميل جبار هاجس التسويق، وقال: ليس في حساباتي أثناء إنجاز عملي التشكيلي، إنما أجسّد رؤاي الجمالية وخلجات النفس التواقة للتماهي مع سحر الوجود المهيمن". وأضاف: أسعد بالإطراء الذي يدل على أن قناعاتي تحققت ووصلت إلى المتلقي، من دون مبالاة بالعائد المالي المترتب على العمل الفني.. الفن أولاً والعائد المعيشي ثانوي. مشيراً إلى أنه لا يمكن الاستغناء عن مصادر العيش، لكن ليست هي الهدف.. الهدف هو النجاح في تحقيق منجز فني
مشهود.
وأكد أنَّ "المتن في عملي هو الإبداع، أما المكسب المادي فهامش.. المكسب ليس هو القضية التي أعمل من أجلها، من دون أن أتنافى معها؛ لأنّ التنافي يعني الموت جوعاً"، مضيفاً: مقتنو الأعمال الفنية كثيرون في العراق.. أما نحن في السويد فنعاني من انعدام الاقتناء.. جمهور التشكيل في أوروبا، ذواقون.. حين يقف أحدهم أمام اللوحة وهو يردد: WOW لكنه لا يكلف نفسه دفع مبلغ لشرائها، ظناً منهم أن الفنان يعيش من كلمات الإطراء وظناً بأموالهم عن دعم الثقافة.
لفت الفنان جبار: لا يمكن لفنان متفرّغ لعمله الجمالي أن يعيش منه برفاه ولا بالحد الأدنى، إنما سيعاني شظفاً في حياته؛ لذلك لا يوجد لدينا فنان متفرغ؛ لأنه لو تفرغ يموت جوعاً، أو يعيش صعوبات جمة.
مأزق التسويق
أفاد رئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين الفنان قاسم سبتي: "ثمة فنان يتميز إجرائياً عن الرسام.. الفنان لا يدخل في مأزق التسويق.. يربأ بنفسه.. رفعة عن الخوض في تلك التفاصيل، معتداً بإبداعه عن التكسب؛ لأن مجرد التفكير بهذا الشأن يعيق زخم تدفق قدراته، ومن ثم يظهر قصور إبداعي يثلم جرفه"، منوهاً: "في حين الرسام يحفل بالمال ومردودات العمل، والمشهد التشكيلي يكتظ برسامين مقلدين للتجارب المهمة ومستنسخين لأعمال الآخرين.. هؤلاء تبدأ حياتهم وتنتهي بذلك.. لا يتحسسون من حسابات المال المترتبة على فنهم، وهو حق إنساني لا يلامون بشأنه؛ إذ لكل امرئ
ما يلائمه".
وأضاف أن "الإطراء يهز الفنان في البداية.. حينها كان يهمني أن أجد ما يعينني مادياً، لذلك رسمت لوحات أزقة وطيور خلال السنوات الخمس الأولى بعد تخرجي في كلية الفنون الجميلة - جامعة بغداد، ثم بدأت البحث عن تجربة تظهر كل ما يعتلج في ذهني من أفكار أجسدها بلوحات من عقلي إلى أبصار الناس وبصيرتهم وذوقهم".
وتابع: ستة عشر عاماً دامت عملية البحث عن أسلوب وجدته عندما احتل الأمريكان بغداد واحترقت المكتبات.. الصدمة جعلتني أكتشف تجربة "أقنعة النص" التي أعتبرها تجربتي الحقيقية.
أشار إلى أن الإبداع متن في عمله التشكيلي، وما الربح والمكسب المالي إلا هامش، لكنه يأسف على أن اللوحة تعرض مرة واحدة وتختفي، متسائلاً: كيف نديم استمرارية إطلالة المتلقي على اللوحة؟
وبشأن منافذ التسويق، قال الفنان سبتي: التشكيلي العراقي يعيش أزمة؛ فلا الدولة ولا مؤسساتها أو شركات القطاع الخاص، ولا الكل يُعنى بمصير اللوحة مفكراً بشرائها؛ فعند غياب الطبقة الأرستقراطية التي هاجرت العراق جراء الحروب والأزمات والصراعات، ظل فقط البرجوازيون متمكنون مادياً وهؤلاء محدثو نعمة لم يرثوا تقاليد تشكل ثقافة اللوحة جزءا منها؛ لذلك هم لا يفكرون بالشراء أساساً ولا يدخل التشكيل في قاموس مفردات حياتهم المزدحمة بمضاربات المال والأعمال، مبيناً: صانعو المشهد التشكيلي وواضعو اللبنة الأولى لتأسيسه، مثل جواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي، وما بعدهم، رعتهم الدولة بثقلها فعاش الفنان ازدهاراً، أما الآن فقراءة الفاتحة أجدى.
أوضح أن "هناك أملاً نما خلال سنتين ويبدو أنه سيستمر، يتلخص باقتناء أعمال الرواد من قبل جماعة غسيل الأموال ازدهرت قناة البيع هذه، أما إبداع الآخرين فلا نصيب له بهذا الأمل"، "أنا فنان متفرغ.. لا راتب لي ولا مصدر معيشة سوى لوحاتي التي عرضت في أهم عواصم العالم.. باريس وطوكيو ونيويورك، محققاً المال الذي انتظره، وهناك زملاء لا يحق لي ذكر أسمائهم.. يعيشون من ريع ما يبيعون"، وفقاً لتعبيره.
مجيء الرزق
من جهته، قال الفنان ستار لقمان: أرسم من دون تفكير بالبيع.. للفن فقط، لكن أحزن لأن اللوحة بعد العرض تحجر في أقفاص المخازن ويحرم منها الجمهور المتابع.
وأضاف: يهمني الإطراء والنقد الذي يشخص أبعاد ومنافذ لوحتي على المطلق وعلى أكاديميات الفن، لكن عندما يجيء الرزق لا أرفض.
وأعلن أن "الأبداع في فني هو المتن والكسب المادي هامش؛ لأن الفنان العراقي لا تتوفر له منافذ تسويق إلا على فترات غير كافية للاعتماد عليها بالعيش، وهذا ما أعانيه أنا وزملاء آخرون؛ لأنني متفرغ للفن منذ 1995 ومكتف بفضل الله". وقال الفنان رعد المندلاوي: أرسم رؤاي المطلقة وليسهر الناس جراها ويختصموا.. لا أعنى بالتسويق ولا يشغلني، ولا يشكل هاجساً في حياتي، مستطرداً: لا أترقب الشراء، المهم أن أؤثر في الناس من خلال عملي التشكيلي، في زمن يتوهج خلاله الإبداع لكن فرص التسويق.. قليلة.. شبه معدومة، ولم أجد فناناً عراقياً يعيش رفاهاً من التفرغ للفن.
أما الفنان د. جواد الزيدي، فقال: لا يؤرقني التسويق؛ لذلك أضع رؤاي في عملي الفني إلى ما لا نهاية، فالماديات تتنافر مع الجمال، المهم إعجاب المتلقي بفني، فإذا ركز الفنان على إبداعه تجيء الماديات تلقائياً، لكن الإحباط يجيء من توقف العمل بالمنافذ التسويقية التي ظلت سالكة منذ بدايات القرن العشرين والى التسعينيات، لكن الآن اختفت ثقافة الاقتناء من المجتمع العراقي.. حتى النخبة تفكر بلقمة العيش أكثر من الثقافة البصرية.
بالمقابل، شدد الفنان علي نوري، قائلاً إن "العمل الفني عندما يخضع للبيع والشراء يصبح تجارياً، لكن يهمني أن أثير المتلقي والناقد الحساس؛ فالإبداع هاجسي؛ لأنه خالد الى ما بعد وفاة الفنان" داعياً الى توفير منافذ تسويق لأعمال الفنانين: "كي لا تهمل بعد العرض". أما الفنان سلام جعاز، فيرسم رؤاه ولا يعنى بالتسويق، باحثاً عن فرص تربط اللوحة بالمتلقي ولا تنقطع العلاقة بعد انتهاء المعرض، والأمر ذاته يسري على الفنان رياض غنية: "أرسم ما يعجبني ويسهم بتأكيد رؤاي ولا يعنيني سواء تم بيع اللوحة لمقتنٍ أم لا.. المهم إلا تحجر مثل مرض معدٍ بعيداً عن الجمهور".