موت المعيار

ثقافة 2023/04/04
...

 د. صباح التميمي


يثير هذا العنوان حزمة أسئلة، تتضخم مكونةً علامات استفهام تنغرس عميقا في تربة المعرفة والثقافة العربية المعاصرة، فإذا كانت الثقافة فعلاً محرّكا واهتزازات مكررة - أو هكذا يُفترض أن تكون - لها تأثيراتها الواضحة في تصديع بيضة الثبات المعرفي والثقافي التي تنزع نحو تجميد الحركة، وإسكان كتلها الفاعلة، فإنّ ذلك يعني أنّها خارج المعيار! 

هل هذا المنطق يحسن السكوت عليه؟  

هل فعلاً إنَّ صيرورة الأشياء خارج حدود المعيار يمنحها اندفاعة تقدمية تغادر معها منطقة الركود والتحنيط المعرفي والثقافي، وتدخل منطقة المتمرّد والمغاير والرافض؟

وهل هذا يُمكِّنها من أن تعمل على إعادة بَنْيَنة المعيش الثقافي والأدبي وشحنه بحساسيات جديدة، وأصوات مغايرة، نافرة من سلطة المعيار التحييدية المتكئة على العقل الجمعي، وثقافة الماضي؟

وهل فعلا إنَّ سلطة المقايسة تمثّل إشكالا يحول من دون اقتراح حداثات جديدة أو يقف بوجه العبور إلى فضاءات ما عرف بـ (ما بعد الحداثة)؟

إنَّ الممعن في اللحظة الراهنة - ثقافيا - يجدها تنغمس في سيول ما بعد الحداثة التي تتجه إلى إشاعة المقيّد، وإطلاق اليد على نحو فوضوي في كل ما له حدود مرسومة قصد تذويبها، بدعوى كسر عنجهية السرديات الكبرى! 

 ومن ذلك، ولعله أخطر ما فيه، رقمنة المجتمع، وخلق عوالم افتراضية موازية لعالم الواقع، بدأت تزحف بشكل مخيف نحو مناطق هذا العالم، لتحل محله رويدا رويدا، ومن يدري ربما نصل إلى لحظة حاسمة يكون فيها الواقعي قد ذاب في أتون الافتراضي بالكامل، ونكون - وقتذاك - قد فقدنا التحكّم بعالمنا الواقعي، وهنا سيموت عالم المعيار، ويحل محله عالم فوضوي، يحسبه الجاهل عالما متحرّرا، مساحة بوح شاسعة، يمارس فيها ما يحلو له من دون سلطة المعيار..

وهذا ما بدأت ملامحه العامة تظهر، فالفوضى بدأت تتسرّب إلى المؤسسات الثقافية الواقعية، فلا الصحف عادت هي الصحف ولا دور النشر كسالف عهدها، ولا النخبة الثقافية في الاتحادات باتت فاعلة، وتسلقت في خلال هذا الصمت جموع من الطارئين بلا معيار حاكم، أو رادع معرفي ثقافي، في ظل فوضى النشر، وعدوى الظهور القشري، وسباق التسلّح النجومي، ما بات يستدعي خلق حالة مضادة لعرقلة سير تيار التفاهة الجارف، وكفّ المثقفين عن الصمت، والخروج عن سباتهم وعزلتهم، قبل فوات الأوان، والحيلولة من دون موت الجميع في ظل ممارسات قتل المعيار المتكرّرة.

متى نعي خطورة الموقف؟

متى يشعر المثقف بفوضى ما يحصل حوله... مراهقون كتابيا يصبحون كباراً في ظل مجانية التلقيب، كُتّاب خواطر باتوا يتربّعون على منصات مهرجانات كان يحلم بها كبار الشعر، أنصاف أدباء يقتلون لغتهم كل يوم ألف مرّة، بلا رادع! …طفيليون يدخلون الوسط الأدبي من أبواب متفرقة تزفهم أكف مصفّقة متملقة تعيش على ثقافة (صفّق لي، أصفق لك) ... غير ذلك من أفعال يومية يندى لها جبين الثقافة الحقيقية.

فمتى يضع الحقيقيون عصا الرفض في عجلة هذه الفوضى؟ 

متى؟