منفيستو مُناهضو الفلسفة

ثقافة 2023/04/05
...

انطونيو پالامو                             

 ترجمة: د. فارس عزيز المدرس

  من الضروري أنْ يرفعَ شخصٌ ما صوتَه ليخبرَ العالمَ بما تفعله الفلسفة. إننا لا نصنع أعداءً، والذين يصنعون الأعداء هم أعراضُ المرض الذي خلّفته الفلسفةُ المعاصرة، ونحن مَن سيجتثُّ المرض. 

يرى دعاةُ مناهضة الفلسفة أنّ نزعتَهم عمادُها العلمُ والشعورُ والإبداع؛ وكلّ ما تفعله الفلسفة العادية مِن خلال العقل والخبرة؛ يستطيع أنْ يفعله مناهضو الفلسفة؛ مِن خلال القلب والروح والشخصية. 

إنَّ حركةَ مناهضة الفلسفة ليست أيديولوجيا؛ بل ردّ فعل واستجابةٌ لِما آلت إليه الفلسفةُ الحديثة، فالمفترض أنّ منطقَ الفلسفةِ ومنطق العقل موجودان، ويجب أنْ يؤديا دوراً، ويعطيا معنىً للعالم. ولا يوجد تسويغٌ منطقي ضد الفلسفة نفسِها، ولا سبب لمناهضتها، لكن كلاً مِن العقل والمنطق أصبحا أداةً مميتة في بناءِ اللغز غير القابل للفك، وهذا اللغز مفادُه: ما جدوى الفلسفة؟ أو ما الذي آلت إليه؟!. 

منطقياً لا عدوانَ على الفلسفة؛ لكنْ هناك حواجز يجب تخطّيها لنستمرَ في التقدم ... أمّا (قوالب) المنطق فحاجزٌ يجب القفزُ عليه. إنَّ مناهضي الفلسفة ليسوا سياسيين، ولا حتى أخلاقيين، ولا يريدون مناهضة الفلسفة لذاتها، هم يؤمون بأنفسهم، وهم ليسوا طائفةً ولا ديانة محدّدة. لكنْ هل من الممكن وضع تعريفٍ مناسب لحركة (مناهضي الفلسفة)؟. هذا هو السؤال الصعب.

 إنّ السمةَ الرئيسية لحركةِ مناهضة الفلسفة هي تجنبُ أصولية الفلسفة، وتعتقد الحركة بأنَّ الفلسفةَ الحاليةَ فاسدةٌ وانتهت صلاحيتُها منذ زمنٍ بعيد، وحالُها يشبه قولنا: هل يمكنك التفكيرُ في إنشاء “ قسم الشعوذة “ في كلية الطب !. 

إنّ المفاهيم مِن مثل الواقع والخبرة والعقل والروح والحركة، وما إلى ذلك؛ صارت كلماتٌ فارغةٌ مِن المعنى والأهمية في أغلب الفلسفات الحديثة، وهذه ليست محاولةٌ للحطِّ مِن المسائل الفلسفية. لكن النتائج المتمخّضة عنها فارغةٌ، وغيرُ منتجةٍ، وعقيمةٌ بالتأكيد. والمسألةُ هنا: لماذا لا يفهم الناسُ الفلسفةَ، ولا يحبونها، وكيف أصبحت مجرّدَ مادةٍ مستهلكة في الجامعات؟.

كانت الأهدافُ الأصلية للفلسفة (اليونانية) مساعدةَ الناس في الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي لم يستطع الدينُ العادي آنذاك حلّها. وفي الوقت الحاضر أصبحت هوايةً لأشخاصٍ عصابيين؛ لا يتمتّعون بصفاتٍ قوية في العلاقات الشخصية، ومِن هنا أصبحت الفلسفةُ ابنةً غيرَ مرغوبٍ فيها للأسف!.

 أمّا عن سببِ تحوّلِ الفلسفةِ إلى جثةٍ هامدة؛ فليس بسببِ معلوماتها وموضوعاتها، فهذا سببٌ محسومٌ ويمكن فهمه، أمّا الخلل ففي عزلها عن الواقع وفي الطريقة التي يتم تدريسها بها. 

إن تدريسَ الفلسفة وموضوعاتها يجبُ أنْ يكون فناً؛ لأنّها فضيلة ... فضيلة مِثل النحت والرسم وما إلى ذلك ... وما لم يسِر الفنُ نفسُه على هذه الطريقة فهو بهذا المعنى يصبح مزيفاً. ويمكننا أنْ نجدَ العديدَ مِن المزيفين الذين يعملون في الفن الحديث والأدب، ويكسبون المال ويحافظون على الجهل التام؛ ويتناسون المعنى الأصلي والأساسي للإبداع، في الفن والأدب والفلسفة.


إنّ حركة مناهضة الفلسفة ذات طبيعة كلاسيكية في كثير مِن أغراضها، وقضيتُها ليست دوغمائية، وترى أنّ التعليم الفلسفي يتمّ تدريسه حالياً بوصفه شكلاً فاشلاً؛ لعدمِ كفاءة المعلّم أولا.

ومن ناحية أخرى تعترف مناهضة الفلسفة بأنّ معتقداتِها وأسسها متعددةُ التخصصات. ومن الضروري أنْ نقول إنّها - وبحكم طبيعتها - ليس لها أيّ تحيّز، ومهامُها جماعية ... وهذه فقط البداية. 


يوجّه منفيستو (بيان) مناهضة الفلسفة دعوةً إلى كل مجالٍ من مجالات المعرفة؛ بوصفه “وسيلة” ومستقبلاً موجهاً نحو الهدف، وتقترح المساعدةَ المتبادلة مع العلم؛ فهناك علاقةٌ محورية بين الميتافيزيقا وبين العلم، وترى ضرورةَ التحوّل الكلّي للفلسفة الحالية نحو مغادرة مدرسيّتِها، ومراجعة محدّدات المنطق، ولا يوجد حلّ آخر واقعي، أو وثيق الصلة بالموضوعية. وما خلا هذا الحل سيكون مصيره الفشل؛ ولا مناص.

لنواجه الأمرَ ونعترف بأنَّ القرن الثامن عشر كان بمثابة بوتقةٍ للنظريات والتجارب والميتافيزيقيا. ولم تساعد الميتافيزيقيا وحدها البشريةَ بأي حال مِن الأحوال، فمنذ العصور القديمة إلى القرن الثامن عشر كان العلمُ والفلسفة مندمجين، وبعد ذلك كان هناك انفصالٌ مأساوي. 

يمكننا أنْ نلاحظَ أنّ هناك فصائل داخل الفلسفات الحرة؛ وكانت مختلفة بالفعل عن الفلسفة التقليدية، ويمكننا أنْ نلاحظ أيضاً كيف تمَّ استبعاد الوسائل التجريبية والعملية مِن خلال النظر الميتافيزيقي وحده، وهذا ما يكشف عن التمايز النهائي خلال عصر التنوير بين التجريب والميتافيزيقا. 

تعتقد مناهضة الفلسفة بأنه لا الفلسفة ولا العلم استفادا مِن مثل هذا الصدع بين الفلسفة والعلم؛ إذ انحرفت الأفكارُ الفلسفية عن التطبيق العملي، وتمَّ تحويلها إلى تيارٍ جامدٍ مِن المنظرين، ومعظمهم من الميتافيزيقيين الذين كانوا يتلاعبون باللغة، فاختار العلمُ أنْ يحملَ الجانبَ العمَلي عن السيدة العجوز (الفلسفة)، وبالفعل تمّ إملاءُ حكمِ الإعدام على الفلسفة. 

لم يكن العلمُ هو ما قرّر إعدامَ الفلسفة؛ بل الفلسفةُ بوضعها الحالي هي التي أعطته ذلك الحق. لقد تعرّضتْ الفلسفة للخيانة مِن لدن تلاميذها ورفاقِها، وهؤلاء هم مَن قرّروا تحنيطها؛ مِن أجل إنقاذ كبريائهم وغطرستهم. لقد تمّ صلْبُ الفلسفة بالفعل!

وبعد ذلك حمل هؤلاء الفلاسفةُ الجثةَ وغيروا ملابسَها فارتدت السيدة العجوز ثوباً جديداً. وعندها كرّس هؤلاء الفلاسفة الهواة حياتَهم للتجوال في الجامعات بجثةِ السيدة العجوز؛ لنشر الرائحة الكريهة. 

لم تكن الروائح المثيرة للاشمئزاز ميتافيزيقية في حدِّ ذاتها؛ بل نظريات غير منطقية؛ وموضوعات غير ذات جدوى. وتمثّل إبداعُهم ببراعتهم في إخفاء زي العمل لصالح العلم. 

من الواضح أنَّ العلم لم يكن قادراً حينها على الاعتراف بمثل هذه الكمية من المغالطات والثرثرة. كان السبب ظاهراً؛ وهو الافتقار التامّ إلى التطبيق العملي والموضوعي. فكانت إحدى أصعب المشكلات هي تحدّي الكتاب المقدس في الانطلاق إلى مستوىً أعمق في تفسير العالم، ومع ذلك لم يكن العلمُ يريد أنْ يفقدَ منظورَه الداخلي: في أنْ يكون عالماً ومؤمناً. 

 إنَّ أناساً مثل نيوتن وجاليليو أشخاص متدينون؛ ولكن من دون اتّباع أي عقيدة. والمفارقةُ أنَّ أعمال لينين تمتَّعت بدايةً بمعدل من الحقيقة! إذ رأت الحكمةَ في كيفية التعامل مع العلاقة بين الإيمان ولامبالاة الناس بأوضاعهم الاجتماعية، وقد أوضح ماركس هذه النقطة من قبلُ؛ فعندما ينام الناس تحت بحرٍ من الهاجس الديني سيتّسم هؤلاء الناس باللامبالاة القوية تجاه بؤسهم، ولا يفعلون شيئاً لتحسين أنفسهم. ومما لا شك فيه أنَّ الذرة بالنسبة للينين كانت قطعة صغيرة مِن المادة. وكان العلم سيواجه قناعات الإلحاد بالحجة؛ لا بالنفي. 


وفي الواقع كان العلم من دون بذرة المادية لا شيء، لكنه سيكون أسوأ مِن حال الفلسفة اليوم؛ حين تطرّف ونفى ما عداه. لكن الحمى تبدأ مع اقتراب مرض الدوغماتية! إذ لا يوجد فرق، بل مجرد اختلاف عقائدي بين إذا ما قال المرء “يسوع سينقذني، أو سينقذني ماركس، فالدوغماتية هي دوغماتية، ولا تقلق بشأن ذلك، فهو محصول جاف، وتحصيلُ حاصل!.

مِن أكثر مشاكل الفلسفة الحالية ما أسمّيه الإرهاق. والإرهاق هو الاستخدام السيئ لمصادر الفلسفة التي اغتُصبت بشكلٍ وحشي؛ حتى بعد موتها. لقد تورّطت الفلسفة الحالية في إساءة استخدام الفلسفة القديمة مِن خلال عزلها عن العلم.

   إنّ استخدامَ جثة السيدة العجوز لم يكن مجرّد تزييف وخداع، بل أيضاً عارٌ كبير يسيء إلى الفن والحب وجلالة الغرض اليوناني القديم للحكمة. وتدين مناهضةُ الفلسفة بالاحترام لفلسفة اليونان لأنها حرة، وغيرُ خاضعةٍ لنظام معين، ولم تناهض العلم ولم تُقصِ الإرادة.


وبينما ينتقد الفلاسفةُ الحاليون الفلسفة التقليدية راحوا يحطّمون جوهر الفلسفة. وعليه كان من الضروري التحفظ على كل ما قالته السيدة العجوز قُبيل موتها. إنّ الفلسفةَ في الوقت الحاضر محضُ هباءٍ، ولا يفعل الفلاسفة المعاصرون سوى تكرارِ ما سبق قوله: أي مجرد تفسيرات لتفسيرات، وتملّق لأنساقٍ ثقافية سارية!.