العبور إلى ما بعد الحداثة

ثقافة 2023/04/08
...

 تيري إيغلتون

 ترجمة: حيّان الغربيّ

يعكف الكاتب الإنكليزي ستيورات جيفريز في كتابه "كلُّ شيء في كل زمان ومكان: هكذا عبرنا إلى ما بعد الحداثة" الصادر عام 2021 على تقديم سرد شامل أخاذ للدور الذي لعبه كل من موسيقى الهيب هوب ومغني الروك البريطاني ديفيد بوي ومسلسل "أنا أحبّ ديك"، من بين أمور أخرى، بوصفها أدوات ثقافية ناجعة على هذا الصعيد.

لطالما سعى المفكّرون ما بعد الحداثيين على مرّ النصف قرن المنصرم إلى النّيل من الحقيقة والهوية والواقع، فالهوية مجرّد قيودٍ تفرض على المرء والحقيقة ما هي إلا رأيٌّ يخصُّ الأكاديميين ممن بلغوا أواسط العمر، وأما الواقع فقد غدا مهجوراً مثلما هو تقليد ارتداء زيٍّ خاصٍّ بتناول العشاء والموضوعية أسطورةٌ في خدمة القوى الحاكمة. 

ولعلّنا إن استطعنا التخلّص من هذه الأوهام لنعمنا بعالمٍ ينطوي على قدراتٍ لا محدودة، فبدلاً من الاحتفاظ بذاتنا نفسها على نحوٍ مضجرٍ حين نستيقظ كلّ صباح، بمقدورنا التنقّل من هويةٍ إلى أخرى على غرار مغني الروك البريطاني ديفيد بوي وبذات القدر من السهولة والخفّة. وهكذا، يتمحور التحرّر الأخير حول المعنى، فيغدو ممكناً لأيِّ شيءٍ أن يعني أيَّ شيءٍ آخر، وبمجرّد أن يتخلّص المرء من المعاني الجامدة والأسس الثابتة، عندئذٍ سيحظى بالحرية والمتعة كاملتين. 

ترمي ما بعد الحداثة إلى تحقيق المتعة، وإن كان تيارٌ من العدمية يجري من تحتها، فكما يشير ستيورات جيفريز في مؤلَّفه الفذّ هذا، ثمة خواءٌ ما قابعٌ تحت كل هذه الوفرة. 

على الرغم من ذلك، تسعى ما بعد الحداثة إلى الهدم أيضاً، فبما أن الحضارة تستند في سيرورتها إلى النظام والسلطة، فلا بدَّ من أن تحديهما سيفضي إلى التهلكة. ولكن مما يثير الاضطراب هو أن النيولبرالية تجاهر بتحديهما معاً، فلا شيء يفوق السوق من حيث الحركة والمرونة، وإن أحداً في وول ستريت لا يؤمن بالحقيقة المطلقة والفوضويون الحقيقيون هم الباعة في السوق الحر. إذن، هل تعمل ما بعد الحداثة على نقد الوضع القائم أم أنها تسلّم به؟

لعلّ المفارقة القصوى التي تنطوي عليها ما بعد الحداثة تتمثّل في أنها تطعن بالنظام ولكنّها تسعى إلى تعزيزه في الوقت عينه. وهكذا، لا يعود بمقدورك التصديق بأن رئيسك في العمل ليس بوهيمياً. قد تتميز ما بعد الحداثة بالمرح والظرف والضحالة، ولكن ألا تنطبق هذه الصفات على رئيس الوزراء البريطاني (السابق) بوريس جونسون؟ وهي لا تستحي من كونها شعبوية وترتكز بصورةٍ أساسيةٍ على اليوميات المبتذلة، لكن أليس هذا هو رئيس حزب البريكست (السابق) نايجل فاراج كذلك؟ 

وعلى حدّ تعبير جيفريز، كان ستيف جوبز "يروّج للامتثال والإذعان في لبوس الحرية الشخصية"، فلعلّه كان يظنّ نفسه هيبياً، بيد أن المصنع الصيني الذي تعاقد معه ليتولّى صناعة منتجاته قد شهد حالات انتحارٍ من قبل العمّال الخاضعين للاستغلال، فما كان ردُّ شركته على ذلك؟ الاكتفاء بتركيب شبكات حماية تحت النوافذ في السكن العمالي. ويرى البعض مادونا مناضلةً نسويّةً بينما يعتبرها البعض الآخر مروّجةً لشهوة الاغتصاب من خلال كتابها، الذي اعتبر أنجح الكتب (الجنسيّة) السهلة على الفهم على مرِّ العصور. ولربما انطلقت سياسة ما بعد الحقيقة على الضفة اليسرى لنهر السين في مدينة باريس، إلا أن الحال قد انتهى بها إلى البيت الأبيض.

إنَّ بعض دراسات ما بعد الحداثة ثقافيٌّ وبعضها الآخر تاريخيّ والقليل منها فلسفيّ، مما يضفي على هذا الكتاب المزيد من الأهمية نظراً لأنّه يجمع بين المقاربات الثلاث، الأمر الذي لا يحدث إلا نادراً إذ إنّ أولئك الذين يعرفون المغنّي سيد فيشوس ليسوا بالضرورة قرّاء متحمّسين لأعمال ميشيل فوكو كما أن القرّاء المتعمّقين في أعمال جاك دريدا قد لا يعجبون بمسلسل "أنا أحب ديك" أو بالرواية التي أخذ عنها المسلسل وتحمل الاسم نفسه للكاتبة الأمريكية كريس كراوس. 

تنضح صفحات كتاب جيفريز هذا بزخمٍ معرفيٍّ لافت حول ثقافة ما بعد الحداثة، بما في ذلك موسيقى البانك والهيب هوب والأفلام والصور وحركة معارضة الطب النفسي والفتوى الصادرة ضد سلمان رشدي والنظرية الكويرية. يتموضع كل ذلك ضمن سياق نيولبرالية سبعينيات القرن العشرين، بما يبيّن الكيفية التي أوجدت بها الرأسمالية المتجددة ثقافةً تستند إلى السمات المرنة والمؤقتة للربح السريع والاستهلاك الأزلي وتعدد الهويات.

قد تكون ما بعد الحداثة حقيقةً تاريخيّةً، بيد أنّها تعتبر التاريخ بحدِّ ذاته مصدراً للسأم، إذ ليس الماضي بكل بساطةٍ سوى مجموعة من الأساليب التي تخضع لإعادة التدوير بينما لن يختلف المستقبل عن الحاضر إلا بكونه ينطوي على مجال خياراتٍ أغنى. لم يعد ثمة متسعٌ للسرديات الكبرى من قبيل فكرة التقدم، كما لم يعد ثمة تحوّلٌ جللٌ يرعب مناوئيه ويأتي بالأمل ليداعب مخيّلة مؤيديه، ولم تعد المسألة هي تغيير العالم وإنما محاكاته إذ إن التاريخ قد انتهى مع (مثلّجات) بن أند جيري و(لعبة الفيديو) جراند ثفت اوتو.

حين اصطدمت الطائرتان ببرجي مركز التجارة العالمي، شرعت سرديةٌ كبيرةٌ جديدة تطرح نفسها على العالم: الصراع ما بين الغرب والإسلاميين، الأمر الذي كتب نهاية حقبة ما بعد الحداثة في نظر عددٍ من المراقبين. 

بيد أن المؤلّف يعرب عن شكّه في الأمر، فلربما فقدت ما بعد الحداثة شيئاً من حماسها الشبابي، بيد أن روحها الخبيثة ما زالت حيةً ترزق. لا شك في أن أفكار ما بعد الحداثة مؤهلة للاستمرارية في ظل الشكوكية السائدة في مواجهة الحقيقة في الوقت الراهن، إذ يرى جيلٌ كاملٌ من الشبّان والشابّات أن مجرد تكوين قناعةٍ معينةٍ من قبل المرء يعني أنه مذنبٌ بالدوغمائية بكل بساطة. فحين سُئل بوريس جونسون عن قناعاته ومعتقداته، أجاب بأن الوقت لم يسعفه إلا لتبني القليل منها. ولعلّ اتهام شخصٍ ما في رأيه بوصفه مزيفاً ينطوي على شيءٍ من التحامل، إذ ينبغي مقابلة أية وجهة نظرٍ بالاحترام، إلا إن كانت تشي بالعنصرية أو التحامل الجنسي أو رهاب المثلية أو النخبوية أو معاداة السامية، فهي تغدو وجهة نظرٍ عدوانيةً من دون أدنى شك. ولكن ماذا لو تعلّقت الموضوعية الأخلاقية بموضوعٍ آخر؟ ثمة كتّاب في يومنا هذا يصرّون على أن المرأة ما زالت عرضةً للتقييد والقهر منذ فجر التاريخ ولكنهم في الوقت عينه حين يستخدمون كلمات من قبيل الحقيقة والواقع فهم يضعونها ما بين علامتي اقتباس بغرض التبرؤ منها.

ثمة نظريات للمعرفة عديمة الفائدة، لكنّ الأبرز بينها هي تلك التي تحول بيننا وبين القول بمستوىً معقولٍ من اليقين بأن عدداً كبيراً من الأفارقة قد رزح ذات يومٍ تحت نير العبودية الغربيّ على سبيل المثال. ومع ذلك، ينتشر هذا النوع من نظريات المعرفة في معظم قاعات المحاضرات والندوات الفكرية، وإن كان تحمّل الفكر السائد لدى القيّمين عليها أشقّ من تحمّل العبودية ذاتها. فلعلّ النقد الآسر الذي يقدّمه جيفريز في كتابه هذا يسهم في فرزها على نحوٍ جليّ.