المنهجُ والمنهجيّةُ

ثقافة 2023/04/08
...

 محمد صابر عبيد

ترسم العلاقة الجدليّة بين المنهج والمنهجية صورة الفضاء النقدي الحديث في الدرس النقدي، إذ انطلقت نظريات النقد الحديثة نحو النصوص والظواهر الإبداعيّة بوعي منهجيّ جديد يحاول أن يعيد الاعتبار الإنسانيّ والجماليّ والمعرفيّ لها، وصارت "المنهجيّة" بوصفها سلوكاً نقدياً إجرائيّاً هي الشغل الشاغل للدرس النقدي الحديث على المستويات كافة؛ بحيث لا يمكن الحديث عن ممارسة نقدية -مهما كانت بسيطة- من دون حضور المنهج.

 إذ حظي بالعناية الأكبر من لدن المشتغلين في الحقول النقديّة أجمعها وبحسب طبيعة كلّ منهج ورؤيته وأدوات عمله في الميدان، ومن هنا اكتسب الوعي المنهجيّ في الدرس النقديّ الحديث الأهميّةَ الأكبر والأوسع والأعمق على الأصعدة كلّها، وصار مفهوم المنهج هو المفهوم الأكثر التصاقاً بالعملية النقديّة من البداية إلى النهاية، والأكثر تداولاً في مراحل الممارسة النقديّة ولدى النقّاد المحدثين بلا استثناء تقريباً.

بدأت المناهج النقديّة الداعية إلى مقاربة النصوص الأدبيّة وظواهرها منهجياً بالعمل الإجرائيّ التطبيقيّ، والانتقال من مرحلة الانطباع النقديّ العابر ذي الطبيعة المرتجَلَة السريعة إلى العمل النقديّ المنهجيّ مع ما اصطلح عليه ابتداءً بـ "المناهج السياقيّة"، وهي المناهج التي هيمنت على الدرس النقديّ زمناً طويلاً ممثّلةً بالمنهج التاريخيّ والمنهج الاجتماعيّ والمنهج النفسيّ 

والمنهج الانطباعيّ، تلك المناهج التي تُعنى بشخصية المبدع الحياتيّة بوصفه الفاعلَ الأوّل والأهمّ في إنتاج النصّ الأدبيّ -بحسب رؤيتها-، فكانت سيرة المبدع وبيئته وظروفه وطبيعته وكيفيّة إنتاجه لنصوصه حاضرةً بقوّة في أيّ ممارسة نقديّة تعتمد هذه المناهج.

 لا شكّ في أنّ هذه المناهج -على محدوديّة آفاقها النقديّة- أنجزت الكثير في ميدان حقولها النقديّة؛ وبفاعليّة أدواتها وتقاناتها الكاشفة حتّى بدايات القرن العشرين -عالميّاً أولاً، وعربيّاً بعد ذلك-، وما زالت حاضرة في الميدان النقديّ على نحو أو آخر على الرغم من الطفرة المنهجيّة الاستثنائيّة التي انبثقت في العصر الحديث.

حصلت ثورة منهجيّة كبرى على يد المنهج البنيويّ الذي نقل الحاضنة النقديّة من منطقة المؤلّف إلى منطقة النصّ بوعي استثنائيّ عميق وأصيل، وصار النصّ الأدبيّ المحورَ الأساسَ للممارسة النقديّة بوصفه بنية ألسنيّة مغلقة على ذاتها ومكتفية بذاتها، وانشطرت صورة المنهج البنيويّ الكبرى على شبكة مناهج عُرِفتْ بـ"المناهج النصيّة" التي تتعامل مع النصّ ولا شيء غير النصّ، وجاءت بمقولة شهيرة أبعدتِ الدرسَ النقديّ عن منطقة المؤلّف هي "نظرية موت المؤلّف"؛ في إزاحة واضحة وتامّة لمرجعيّة النصّ الخاصّة بالمؤلّف، واستبدلتْ بها المرجعيّةَ النصيّةَ ولا شيء غيرها بوصفها المرتكز الأساس الذي يقوم عليه النصّ ويكتفي به.

تحوّلت البنيويّة على هذا الأساس إلى ما يشبه عقيدة نقديّة اكتسحت الحضور النقديّ العالميّ اكتساحاً هائلاً على مدى سنوات عديدة يمكن وصفها بـ "عصر البنيويّة"، وربّما تكون قد تجاوزت في بعض الأحيان الحدودَ المعقولةَ وألغتْ ما سواها؛ على نحو شديد العنف في سياقاتٍ ومظاهرَ لا حصر لها، إذ عُنيتْ باللغة عناية مركزيّة حوّلتها إلى مرجع لسانيّ حاسم في التكوين والأداء الإبداعيّ النصيّ، بما جعل منها كوناً خلّاقاً بلا عائديّة أخرى.

ظهرت مناهج جديدة كثيرة سُمّيت "ما بعد البنيوية" كالتداوليّة والسيميائيّة والتفكيكيّة والتواصليّة وغيرها في انتقالات وتحوّلات مستمرّة، لكنّها كانت طالعة من معطف البنيويّة بصيغ وتنويعات وتموّجات مختلفة، ومن ثمّ جاءت "نظريات القراءة والتلقّي" لتنقل الكرة النقديّة إلى ملعب القارئ هذه المرّة، وأفتتْ هذه النظريات بأنّ المتلقّي/القارئ هو صاحب المصلحة الحقيقيّة في تلقّي النصوص الأدبيّة، ومعالجتها، والحوار معها، واحتواء كنوزها الدلاليّة، ومن دونه لا قيمة للنصّ مهما انطوى على قيم وأبعاد جماليّة كبيرة وكثيفة وعالية بحيث عزّزت موقع القارئ في العملية النقديّة بقوّة.

طرحت نظريّاتُ القراءة والتلقّي مجموعةً من التقاليد والأعراف والأدوات والآليّات والقيم النقديّة التي تُنصفُ القارئ وتجعله المحور المركزيّ في الممارسة النقديّة الإجرائيّة، لكنّ الجهد النظريّ طغى على الجهد الإجرائيّ في هذه النظريات وصار من الواجب والضروريّ عليها الهبوط إلى منطقة التطبيق والإجراء، وتعدّ هذه النظريات هي الأحدث في الفضاء المنهجيّ النقديّ المعروف والمتداوَل عالميّاً.

يمكن الإشارة في هذا الصدد المنهجيّ الجديد إلى "النقد الثقافيّ" الذي دعا أصحابه إلى إلغاء النقد الأدبيّ لما ينطوي عليه من عَمَى جماليّ يُوهِم بالحداثة -كما يزعمون- والتمسّك بالنقد الثقافيّ الذي لا يأخذ بنظر الاعتبار جماليّات النصّ بل قوة تأثيره في الوسط الثقافيّ وقوّة تأثير الوسط الثقافيّ فيه، وهذا النقد ربّما -على نحو أو آخر وفي مفصل معيّن من مفاصله- يمثّل إحياءً لبعضٍ من تقاليد المناهج السياقية مجتمعةً، وتبقى الساحةُ النقديّة مفتوحةً دائماً وأبداً لمزيدٍ من الاجتهاد المنهجيّ على المستوى النظريّ ذي الطبيعة الفلسفيّة، وعلى المستوى الإجرائيّ ذي الطبيعة الأدبيّة، ولا يمكن بطبيعة الحال حسمُ أهميةِ منهجٍ على حساب منهج آخر إلّا في حساسيّة الممارسة النقديّة ونتائجها، وهي تعود على شخصية الناقد ومؤهلاته وقناعته في أنّ المناهج كلّها يمكن أن توفّر الأدوات المناسبة للممارسة، ويستحيل عليها أن تكون بديلاً عن "شخصية الناقد" المحتشدة بالوعي الذاتيّ، والثقافة النوعيّة الخاصّة، والمشاعر الفريدة، والرؤية الحسيّة والذهنيّة، 

والمزاج الفرديّ المميّز، وغيرها ممّا يجتمع في لحظة الإجراء النقديّ الفعليّ الاشتباكيّ مع النصّ.