الفيسبوك والتوتاليتاريَّة الافتراضيَّة

ثقافة 2023/04/09
...

 عبد الغفار العطوي


من غير مقدمات، تماماً مثلما يحدث في حياتنا الواقعيَّة، في العالم الثالث، حيث غياب الحريات، وفقدان الخصوصيَّة، يأتيك زوار الليل في عمق نومك الوردي، فيصطحبوك نحو المجهول، الذي يحدث لي الآن على "الفيسبوك" نفسه تماماً، لكن على طريقة مختلفة قليلا، يخترق خصوصيتك الاجتماعية بإشعار: تم تقييد حسابك! لننظر ملياً لطريقة الإشعار – بغتة، والسبب نشر مقالتي  (التحليل السيميولوجي في الخطاب الإشهاري) المنشورة في جريدة، ليس المشكلة هنا في المقالة، وفق النظرة الارتيابية  القديمة.

 

حينما تعجز السلطات الدكتاتورية عن تلفيق الأدلة الكاذبة لك، إذن ما الأمر؟ السبب على ما يبدو في تقييد حسابي "الفيسبوكي" يكمن خارج إرادتي، في الصور الشخصية الملحقة بالمقالة، لثلاثة رؤساء استبداديين، اثنان من العالم الغربي (هتلر وستالين)، وأما الثالث من بلدي (صدام) الصور تقليديَّة، مأخوذة لآلاف الحالات المشابهة التي تستشهد بصور الزعماء الدكتاتوريين الذين شهدهم العالم، وغيروا مجرى التاريخ نحو الأسوأ، فأصبحوا نماذج نمطيَّة في الاستبداد، كان منتصف القرن العشرين في اوروبا يعاني من الكساد العظيم (1929)، لما لاحت ظاهرة الدكتاتورية تراود شعوبها، وطفت مبررات صعود النخبة  السياسية المستبدة التي تنزع بدولها للخلاص من أزماتها الاقتصادية الخانقة، لذا كانت الفلسفة تعاني هي الأخرى من الشعور بالاختناق المفاهيمي، والانسداد الفكري في محاولة عقلنة الواقع السياسي الذي تعد أنها تشكل أحد أقطاب إنتاجه غير مسيطر عليه (نلحظ تلك المحاولة في كتابات مدرسة فرانكفورت) وأوروبا تكتسي حُلّة الحرب الثانية على أثر شيوع سمات التوتاليتاريَّة. 

بادرت الفيلسوفة اليهوديَّة من الأصول الألمانيَّة حنا ارنت (1906- 1975) المنظرة السياسية التي كانت ترفض تسميتها بالفيلسوفة، لأنّه باعتقادها أن الفلسفة تضع الإنسان في صيغة المفرد إلى إصدار كتابها في هذا السياق (أسس التوتاليتارية) واهتمت بإشكالية الطغيان السياسي في صعود أدولف هتلر للسلطة عبر وسائل ديمقراطية في ألمانيا الرأسمالية (كان حزب هتلر ذا بنية عماليَّة). ولم يكن أحد يتوقع أن تدفع الديمقراطية العالم نحو الحرب بسبب الطغاة لكن انتشار نكهة الاستبداد في عموم العالم (ستالين في الاتحاد السوفياتي) حرف مزاج الفلسفة والأدب نحو فكرة التشاؤم في رؤية المستقبل الإنساني الذي يكاد يتربص بالفرد، ومشروعه الفرداني الكلياني الذي تنبأ له بالتوتاليتارية الافتراضية التي وصلت حدود حريتي الفردانيَّة الآن عام 2023، فكان مؤلف حنا ارنت الشهير يتعلق بالدولة التوتاليتارية، وهي الدولة ذات النظام الشمولي التي لا تكتفي بإدارة شأن البلاد الخارجي، إنما تجند فئات المجتمع كله في خدمة الدعاية الاستبدادية للدولة، وإن سعت حنا إرندت في هذا الكتاب المقارنة بين المسار الاستبدادي والمسار الإنساني لصالح عقلنة المسار الأول ولجم جماحه في تجربة أوروبا ألمانيا وروسيا) التي قدمت مستقبلاً متشائماً للنظام الجديد المغترب عن واقعه لدرجة استحضر بورديو في نقده للواقع فكر جان لوك وديفيد هيوم وبيركلي في إنعاش الواقع الافتراضي (الحسِّي) تخلصاً من ضغط الواقع المادي الذي مزّقته ويلات الحرب الكونيَّة. 

من جهته قدم الأدب الروائي فكرة التوتاليتارية المستقبلية في صورة رواية مرعبة لمؤلفها جورج اورويل (1903 - 1950) صدرت الرواية الشهيرة (1984) عام 1949، لكنها منعت حيث تعرضت للطعن عبر تاريخها، أو تم حظرها قانونياً في بعض البلدان بسبب مخاوف في أنها تحرض على تخريب البلاد أو تؤدي إلى الفساد الإيديولوجي. وتقع أحداث الرواية في بريطانيا العظمى سابقاً بمسمى (إيرسسترب) وهي مقاطعة من دولة عظمى تدعى (أوشينيا) في عالم لا تهدأ فيه الحرب، والرقابة الحكومية، والتلاعب بالجماهير، وترزح تلك المقاطعة تحت نير نظام سياسي يدعو نفسه (زوزا).. الخ. 

 هذه الرواية المخيفة لعالمنا اليوم ذات فاعلية جامحة في الخيال الإنساني الآتي مع الفلسفة العقلانية المتشائمة نوعاً ما حملها النظام العالمي الجديد بعد عام 1945 صورة مستقبلية لعالم افتراضي، وهو يغذ السير نحو نهاية القرن العشرين، ليكتشف ذاك العالم الهلع من تحقق نبوءة اورويل وإخفاق أسس التوتاليتارية في كبح غلواء نظام الاستبداد العالمي سيحولها إلى استحكمات تنتشر في مفاصل الشبكة العكبوتيَّة لما يعرف بـ (الفيسبوك) وأن تكون تلك الضوابط التوتاليتارية أنموذجاً قياسياً مرعباً للرقابة المؤسساتية في خصوصية بنية عالم (الفيسبوك) الافتراضي. وكما من الوارد أن تكون مواقع التواصل الاجتماعي وسائل مفيدة بالانخراط في قضايا النشطاء، وفي التعبئة الاجتماعية، وإن بمقدور (الفيسبوك) أن يفتح أبواباً كثيرة على مظاهر تواصل اجتماعي أحدث وأقوى، شأنها تيسير مهام اتصال مهمة، سواء كانت مرتبطة بالأصدقاء، أو مصادر المعلومات، أو القضايا السياسية أو المدنية على وفق ما قاله مؤسس (الفيسبوك) مارك زوكريرغ، في عام 2004، فقد سجل علامة خطرة في اختراق خصوصية الفرد التي اعتبرها خصوصية ليست سرية بالمعنى الدقيق، إنما هي خصوصية سرية يغلب عليها طابع الصبغة الاجتماعية، أي لا توجد موانع لكي نعتقد أنها خصوصية، وإن فيروس الخصوصية يقدر على تحويل كل مستندات المشترك إلى نقاط تحكم جماعي يقيد فكر الفرد الذي يجرب التفكير في الدخول إلى الفيسبوك، بمعنى آخر، فيروس الخصوصية يستهدف أعضاء جدداً من الضيوف تجعل آليات الدفاع عن الخصوصية الطبيعية لديهم تدخل حيز تفكيرهم على أنها غير ضارة، تماماً مثل الدولة التوتاليتارية التي تدافع عن صنميَّة رأس الحكم المستبد، مع تحويل كل الثقافة المكتسبة لهم في الواقع إلى بيانات افتراضية تسخر ضدهم، لأول مرة يتفق جموح الأدب وعقلانية الفلسفة على صنع عالم افتراضي أقسى من الواقع في مصادرة التفكير الحر، وزرع المخاوف الافتراضية المفلترة في كون لانهائي من القمع، فمقالتي (التحليل السيميولوجي في الخطاب الاشهاري-في صناعة صورة الطغاة) ليست مؤذية ولا بشعة بوصفها مقالة في التحليل السيميولوجي. 

لكن فكرة ترجمتها إلى صورة لثلاثة طغاة التي أضيفت عليها في المونتاج من قبل الجريدة هي نقطة إشكال، ولم تكن ضرورية قد أسقطت شجرة التوت، لنذهل من صورة البشاعة التي لفقها السيد مارك لي ولمقالتي، وجعلني أحس بالإشمئزاز، إن ازدراء الثقافة الكتابية في إطار المنظور الواقعي في حالة تعرضها لضغطة التوتاليتارية الافتراضية جعلنا نحذر من خطورة ما يفعله (الفيسبوك) من قمع حرية الرأي بحجة خطورة المعروض من دون مراعاة لمسوغات الكتابة، وفي أي اتجاه تسير، إنما ما يميز (الفيسبوك) من دون سواه من قنوات الإعلام والاتصال القديمة مثل الراديو، والصحف، والتلفزيون، والسينما التي اعتمدت فكرة مهمة الإرسال الأحادي لرسائلها، هو أنه يتخذ فكرة الشارع ذي اتجاهين، يمكن أن تكون تلك الوسائل القديمة تغرقنا نحن المشاركين سلباً بالضوابط التوتاليتارية التي تستقيها من الكتب، فنفزع في تخيلاتنا أو حتى في أمنياتنا عن كابوس الاستبداد السياسي بملحقاته الاجتماعية والثقافية، لكن (الفيسبوك) تغلب على أفهامنا بفكرة الإرسال المتبادل، هو يرسل، ونحن نجيب، بـ: اعجبني التي تسمح له بمراقبتنا، وتعطي لنا ذريعة التقمص الفوبيا، وبذلك سيطل علينا الأخ الأكبر هو اسمه في الرواية الاورويلية زوزا، وفي (الفيسبوك) السيد

مارك.