الأسود الملوكي سيد الألوان

ثقافة 2023/04/09
...

 سعد صاحب 


العتبة الأولى التي تواجهنا في كتاب الخزعلي الجديد، عتبة العنوان (نزهة في السواد)، وحين يتم تفكيك هذه العبارة القلقة، نراها مركبة المحتوى، فهي من جانب تنتمي إلى اصحاب هذا اللون الرائع، مع شحة في القول واقتضاب في التفاصيل، وفي جانب آخر يطالعنا القلق الكوني الرهيب، والتكتم والظلال وغياب الألوان الأخرى، والغثيان والرعب والارادة المعطلة والقصور، في عصر سوداوي مريع. لا يستجيب إلا لبرودة الموت الآتية، من جهة الارتجاف والخواء والسيطرة القسرية على الانسان، ومن جهة العدوان على الحرية والالغاء، وكثرة الاكاذيب والخداع وتشيئة المشاعر والتسطيح. والحقيقة العنوان كان متطابقا مع المضمون، حيث قادنا الشاعر في نزهتين، الأولى نزهة سعيدة، في عوالم الاناقة والرقي والرونق والعشق والجمال، والثانية نزهة شريدة: في أجواء الغموض والوحدة، والموت، والعتمة، والزوال: (تريفت المدينة والشوارع أودعت/ نزهاتنا في ذرة بين الرماد/ تريفت المدينة والقرى هجرت مواسمها/ فما من سنبل يعلو/ ولا من صيحة للديك/ توقظ منجلا لصلاة أيام الحصاد).

الشعر تحصين للروح من الهلاك، وهي تقاوم الغول المتربص بها، في البيت والطريق والدائرة والزقاق، وهي تقاتل القمع والاقصاء والظلم والاستبداد، وتحارب القسوة والانانية والعنف والمماطلة، وما يحسب للشاعر انه لا يقدم الحزن بطريقة فجائعية كئيبة، وخلف الكلمات الكثير من الفرح الشفيف، الثائر ضد الانحطاط والعدمية والوهن والرهبة والارتكاس، وضد العالم المليء بالشرور والقحط والامراض والصلابة، والمحفوف بالأشواك، والصخور، والكثبان الرملية، والحجر: (مزحة الموت أغنية/ ايقظت صحوتي الحالمة/ أوقفتني أمام الطفولة الهو بترتيب ثوبي/ استل خيوطه القاتمة). 

الصعوبة في العملية الابداعية كتابة ما لا يقال، وامتلاك البراعة الكافية لاستنطاق المسكوت، واسكات الكلام الخالي من الغربة والابتكار والدهشة والقول الجديد، وتحرير الحرف الرازح تحت رحمة الرقيب، والاستعداد الكامل للوقفة الشجاعة بوجه الهاوية الآتية بقوة، لاقتلاع كل ما يربط الناس بالوطن، ومواصلة بناء القناطر الشعرية فوق الانهار الحالمة، بالعلامات والمعاني والخطوط والاطراس والمرايا: (ساعة المواجهة تعرف/ أن الحياة مستمرة).  ميول الشاعر إلى قصيدة النثر، لا يمنعه من كتابة قصائد موزونة، فكتب (عثرة في التجانس) على بحر الكامل، و(مكاشفة في التعارضات) على بحر الوافر، و(محاولة في الوصول) على بحر المتدارك، و(موعد الجريدة) على بحر الرمل، و(اغصان بلا شجرة) على بحر الخبب، و(بكاء في المساء) على بحر المتقارب، وبعض الاشعار يتداخل فيها أكثر من وزن. ولكونه مهندسا في مجال العمل، اشتغل على هندسة السطور والحروف والنقاط والفواصل بشكل متقن، وبحسب الحالة النفسية عند لحظة الكتابة، وهذا ما يخلق تأثيرا مباشرا عند المتلقي، ويزيد الفضول باكتشاف ما تنطوي عليه المجموعة من حساسيات شعرية اصيلة، ومن مرجعيات فلسفية ورؤيوية وموسيقية وجمالية، تمنحنا التفكير العميق واكتساب الخبرات واللعب البريء، والاستدلال على الفردية المعبرة عن الجموع، وحب الفن باعتباره (المهمة العليا للحياة) بحسب نيتشه: (أمشي واسمع ضجة العربات/ في لون الملابس/ فلقد تبدلت الحواس وطاوعت جمر الهواجس/ أمشي وأمشي والخطى/ في الرأس يدفعها التهامس). 

قصائد تبلبل الذاكرة، وتحيي النبض الداخلي للنفوس الميتة، وتطمح لإيجاد المشترك الجامع لكل الناس، فالأسود والأبيض لا يفترقان إلى الأبد، وهما النهارات المشرقة بالمتعة والفرح والنشوة، وهما الليالي اللامتناهية بحزنها السرمدي الطويل، والاثنان واحد يكمل الاخر في لوحة الغياب الجارحة، والاثنان يبحثان عن الاثر الضائع، وعن تلك الملامح الجميلة والأسرار القصيَّة والأطياف الغائبة: (ما كان الأسود لونا/ إنه عثرة الضوء/ على عيون المعري). يلتفت الشاعر إلى الحالة النفسية، التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وفي مقدمتها الملل المصحوب بالكآبة والقلق والروتين واليأس وقلة التواصل، والدوران في المتاهة العميقة، والانغماس الكلي في الواقع الرتيب، ولا شيء سوى حياة ساكنة مثل بقعة ماء راكدة، خالية من المتعة والجدة والحضور والتشويق، وأن البرنامج اليومي المكرور، من ألد أعداء الشخص الحالم بالتغيير، والانفتاح، والتطور، والاستمتاع. (ماذا يتبدل في المرآة/ نفس الاسماء نعلقها نفس العثرات/ ما يقدم من أيام/ ليس له إلا أن يشبه ما فات/ نفس الساعات ونفس الدقات). ولا يفوتني أن أشيد بعناوين القصائد، المنتقاة بدراية شديدة، وبعناية تنم عن أهمية هذا المفصل المهم، مع كل ما يرافق الابداع من جماليات أخرى داعمة للنجاح، كالصور الجديدة واللغة المراوغة والتكرار الشائق.