اهتــــزازات ثقافيَّة

ثقافة 2023/04/10
...

 ياسين طه حافظ

أول الأسئلة: هل هي ثقافة ارستقراطية أن نهتم بجويس وبروست أو هوميروس وجورج صاند او بيتهوفن وسواهم من هبات الحضارة، منعتنا عنها أوضاعنا الاجتماعية وبيئات نشأنا فيها، أم أن لنا ثقافة شعبيَّة، وجماهيريَّة، بديل ملائمة وملبية لاحتياجاتنا وما نذكره من ذلك الغريب ليس مهما ولا مما نحتاج له؟، لكن ما هي مفردات ثقافتنا الشعبيَّة هذه، أعني ثقافة العمال الكسبة الموظفين الصغار، وأمثالهم في الرزق والمستوى؟، هل غير الحكايا والمأثورات، المنقولة والمبالغ بها، والمرويات صحيحها ومشوهها او محرّفها وغير بكائيات ناس خسروا او مراث؟ وماذا يبهج الناس.

 يثير قهقهاتهم او تصفيقهم غير ما يبدو تعبيراً عن الاستياء وتفريجاً عن كظم الغيظ، تمثيليات شعبيَّة وأشعار تتقصد ذلك ومسرحيات ساخرة ليس شرطاً أن تكون فناً؟ علينا الإقرار أنَّ هذه حاجة ومثلما هي تعبير عن هم واستياء، هي سلوى! ولهذا فبدلاً من التصدي لعيوبها وتخلفها، يجب فهمها والاسهام الثقافي المتخصص بتطويرها او تهذيبها. وللذكاء الفني هنا دور نافع لها وللناس من بعد. فهذه الثقافة الشعبيَّة الخليط، هي الأكثر والأوسع فعلاً واحترامها واحترام ناسها مطلوب. 

لكن في هذه الثقافة الشعبيَّة، او الثقافة المحليَّة السائدة، ما يعطي ثماراً مرة، ما يسيء، ما يضر وما يحول من دون التقدم المدني والعلمي! وهذا كلام يوجب ان نضع الامور في نصابها فنتاج الأخطاء والجرائم يأتينا من جذورها والأمراض منها، ومنها القتل غسلاً للعار منها والعنف مع الاطفال والوحشيَّة في الانتقام والاضرار بممتلكات الدولة والناس ومصادرة حرية الآخر وامتهانة لعقيدته او لجنسيته.. كل هذه وسواها كثير وراءها ثقافة وثقافة شعبيَّة بعيوبها. ثقافة لم تحظَ بتهذيب، الوصايا والمواعظ ليست قليلة، لكنّها كما يبدو لا تكفي. والحاجة واضحة الى التدخل في بنية هذه الثقافة الشعبيَّة السائدة ولنا عون جاهز في الاخلاقيات الدينيَّة والنماذج الخيّرة. لن نبدأ من الصفر. هنا يعترضني سؤال، لافتة استنكار. لكن جوانب كثيرة في الحياة الاجتماعيّة تغيّرت. ما سرّ ديمومة تلك الثقافة واعني عيوبها الدائمة التي نحن الان بصددها؟ ألا تهجس، ألا ترى، «رعاية» غير مرئية لما يجب أن نكون قد تخلّصنا منه؟ ألا تجد لهذه الثقافة تنظيمات ومراكز رعاية، بل وقوانين تعيش الى جانب قانون الدولة؟ بل تتجاوز قانون الدولة وتفرض «موادها» اللا قانونية، وأنها في أحوال أكثر هيبة من القانون المدني وناسها أكثر إخافة والناس تتحاشاها وتخشى ما ينالهم منها؟ القانون الرسمي لا يدري ما يفعل مع إجراءاتها، والصحة لا تدري ما تفعل مع العادات غير الصحيَّة من الطعام والموائد والجامعات والمدارس نشكو من تجاوزاتها، لا لأنها سيئة جملةً، ولكن فيها عيوباً ولا سيطرة حاسمة عليها وأنّها في الحقيقة خارج الدولة، ولولا قيمها الأساس المتوازنة وأخلاقيات الجماعة، لقلنا أنّها خارج القانون! لسنا ضد احتياجات الناس وما ألفته الجماعات ولكننا ضد أن تكون مؤذية في جوانب منها وان تكون مصدّة اضافية ضد التقدم المدني لهذه الجماعات ولعموم ناس البلاد..

السؤال المضاد، والذي يواجهنا حجة لتلك الثقافة وفي الوقت نفسه إدانة أو إشارة لعيب مركزي في الثقافة الحديثة. لماذا لم تفعّل، الثقافة الحديثة، وبعد عقود، وبالرغم من شبه إقرار رسمي بها وحضور شعبي نخبوي لتبنيها، لماذا هي بلا نتائج حاسمة؟ والى مَ يُعزى عجزها حتى الان، هل الى نقص بنيوي فيها ام الى التشكيك بجدية التبني او جدية توظيفها للمصالح الفرديَّة، فليس للفرد إلا المراوغة او الحركة المخاتلة بين هذه وتلك؟ نحن نتبنى الثقافة الحديثة ونناصر الفعل الآخر للثقافة السائدة بل نسهم في الفعل احياناً وان لم يكن هذا فهل نلجأ الى التشكيك بمدى ما تحققه الايدلوجيات، وهي قيادية عادة؟ الاحزاب وشعاراتها؟ هل من قضية وطنية تستطيع الوقوف وحدها؟ واية حركة ثقافية تتوالد وتتحرك غير المجتمعات؟ الثقافة لا تنجز فعلاً واسعا، هي تثير، تقلق، تنبه، تعترض، ولكن الحسم يبقى مرجأً، وهذا ما رأينا ونراه حتى اليوم. 

وهل السبب محلي فقط؟ أتكون الثقافة السائدة سبباً؟، ولكن هناك ما يوقف التكهّن ويقول لنا بصوت صعب وحاسم: هناك قوى عابرة للقارات تجتاز امثال هذه المعوقات بل تعبرها غير عابئة بما في طريقها، تاركة للزمن عملية التصفية. وكل ادعاءات الوقوف بوجه تلك القوى، وكل «البطولات» المعترضة...، غير حقيقية، او حقيقية مادياً وفعلها النهائي غير حقيقي. تنتهي المواجهة (ان افترضناها مواجهة) بمساومة العناصر البارزة مما تبقى وباتفاقات على تسريب الطاقة الضد وتعميم الاهداف او احالتها لان تكون جزءاً من كل. وبسبب من هذا المؤثر الخارجي الواسع والمستمر والمتزايد، لا هوية مستقرة، لا حزب مستقر ولا قضية صامدة، ولكنها حفاظاً على الكرامة، «تتطور مع الظروف».. 

هكذا نحن نعيش زمن الاهتزازات، اللا استقرار وعلى النطاق الفردي، يمكن لراصد «اهتزازات» المثقفين في الدول النامية كما يقال، ان يرى ظاهرة للتردد الفكري و»التمدني» اللا أدريَّة السلبية، والحماسات الثوريَّة التي لاتفارقها فراغات حقيقيَّة، او التلهي بطوباويات تبدو مستهجنة في واقع مثل هذا.

ليس بلا سبب شيوع 1984 لجورج اورويل في احاديث المثقفين وفيها فكر يعمل مضاداً لفكرين، التقليدي القريب للرجعي والاشتراكي الموصوف بالتقدمي. ثمة ادراك مضمر لا يُعلن عنه ان السلام لا يتحقق باطلاق حمامات وان انتصار البروتاريا لا يتم بالتصفيق في الساحات، وحتى النضالات الصلبة لا تستطيع غير ان تهتز امام فعل وضربات القوى الخارجية وتياراتها التي لا تؤثر حسب ولكن تغير وتطيح بالكثير في طريقها. وما يتبقى من قليل فللمساومة ولن تتأخر النتائج كثيراً.

نحن اذاً امام حالين واسعين واحد تقليدي مشوب بما يؤذي، بما لايقنع، بما لايتناسب وزمن التمدن والحداثة والقانون، وثقافة اخرى قلقة ولا تبدو قوية حد ان تقاوم. هي تهتز لتستسلم او لتساوم وعملياً هما يعيشان من زاد مشترك، هي ومن تبدو في حال مواجهة معه.

يبقى لنا سؤال أخير ونحن نبحث عن حل: هل نحن بحاجة الى ثوريين جدد، غير تقليدين وغير مشدودين الى أقطاب ثابتة؟ الا خطر هنا من متاهة الفرديات السائبة، المنفلتة او التائهة، او المرنة حد (اللياقة) لتكون وسيطاً جيداً لبقايا الصفقة؟

كل شيء يهتز وحتى ينتهي كل شيء! أما نحن، أفراداً في غرف مغلقة، فليس لنا الا التآلف مع الاهتزازات فهي بعض من تحولات «المناخ»!