{الصباح} تخترق عالم المرابين

ريبورتاج 2023/04/11
...

   علي غني

   تصوير: خضير العتابي


انتشرت في الآونة الأخيرة مكاتب تدعي تقديم تسهيلات مالية سريعة، وهي تتمتع بمواقع جذابة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتكتب عبارات مغرية (محتاج سلفة تعدل حالك.. التسليم في اليوم نفسه) بضمان الماستر كارد والكي كارد الخاص بالمواطن، لكن حقيقة الأمر هي ممارسة الربا بنحو علني من دون خوف من الله والدولة والضمير الإنساني الذي شبع موتاً عند هؤلاء النصابين، فلماذا لا تتابع الجهات المختصة هذه المواقع والمكاتب؟ لاسيما أن هذه المواقع والمكاتب تعطي أرقام هواتفها؟، وبعضها يمارس الأمور علناً، لماذا نترك الأبرياء يقعون ضحايا في فخاخ مكاتبهم.


أرباح فاحشة

أحد المواطنين الذي له تجربة مع هذه المكاتب، روى لي ما حدث له، إذ قال: تسلمت سلفة قدرها (10) ملايين دينار من المكتب، لكن بعملة الدولار الأميركي، في وقتها تم إعطائي (8400) دولار أميركي، وقالوا لي إن مدة سداد السلفة (ثلاث سنوات)، وإنهم يربحون عن كل ورقة (4) آلاف دينار عراقي، تصورت في بداية الأمر أنها أرباح بسيطة، ولكن حين تأملت الأمور وحسبتها في الحاسبة، تبين لي أنه (84) في (4) يساوي (236) ديناراً، وهذا ربح المكتب شهرياً، وعندما ضربت المبلغ بثلاث سنوات كان الناتج أكثر من (12) مليون دينار ربحهم خلال هذه السنوات، إنه أعلى درجات الربا، ولكن لعنة الله على الحاجة.


تمارس التحايل

ووصف الخبير الاقتصادي دريد شاكر العنزي هذه المكاتب بأنها تمارس التحايل، وأن بعض الناس سيئة السلوك استغلوا الناس الفقراء الذين يملكون البطاقة الذكية وهم بأمس الحاجة للقروض، وهنا لا بد أن أنوه (والكلام للعنزي)، أن هناك نقصاً في معلومات البطاقة الذكية، فهي من دون اسم، ويمكن استغلالها بسهولة وسحب المبالغ المطلوبة.

وحتى المصارف الحكومية، خذ مثلاً قد تصل نسبة الفائدة في بعض المصارف إلى (45‎%‎)، أليس ذلك (ربا علنياً)، فهذه ليست فائدة، وإنما ربا قاتل، وهذا الأمر قد ينطبق على العديد من المصارف، ولا أريد أن ابتعد كثيراً، عندما أقول لك إن المصارف التي تدعي بأنها إسلامية بدأت تتعامل بآلية الأرباح، فكيف نتجنب مثل هذه الأمور، اقترح أن يكون بدلاً من الفوائد التي تعطى بالمصارف إلى المواطنين أن تتحول إلى مرابحة يعني أنا إذا ودعت (5) ملايين دينار، لا أريد فائدة وإنما هذه الفوائد يضعونها بمشروع معين، حتى أطمئن على الجهة التي تشغل المال وبذلك يكون حصولي على المال شرعياً.


خداع المواطن

قلت لأتأكد بنفسي فقررت أن ألتقي أصحاب المكاتب فوجدت أغلبهم يرفضون اللقاء مع الصحافة، فاضطررت إلى أن أسألهم كمواطن عادي، فدخلت على أحد هذه المكاتب، فقلت لهم أنا محتاج لسلفة، فقال لي صاحب المكتب: ماذا تعمل، فقلت له أنا متقاعد، وكم راتبك فأجبت (مليون وأربعمئة ألف وخمسون ديناراً)، فقال لي: بإمكاننا أن نعطيك (سلفة فوراً)، أرجو الانتباه إلى (فوراً) مقدارها (4) ملايين ونصف المليون دينار، وعليك أن تسددها بسنتين وكل شهر تدفع (400) ألف دينار، وتعطينا جميع المستمسكات والماستر كارد ونحتفظ بها إلى أن تسدد جميع المبالغ التي بذمتك، وعندما حسبتها وجدتها تساوي أكثر من (9) ملايين أي ضعف السلفة وأكثر، والله اعلم بما يدور بداخلهم، لأنهم يتعاملون بعدة وجوه، فهم غالباً ما يخدعون المواطنين بظواهر الأمور ويقتنع الناس بكلامهم، وعندما يقع المواطن بالفخ عند ذلك لا يستطيع الخروج، ويشعر بالصدمة الكبيرة والمبالغ التي دفعها آنذاك (وأنها عملية ربا علنية)، يشعر بالندم، ويطالب الجهات المختصة بالقضاء على هذه النماذج في المجتمع.


طلاق وانتحار

وبعد هذه الجولة مع بعض المواطنين وأهل الاقتصاد، قلت لا بد أن أستأنس برأي أهل القانون، فتصدى لهذا الأمر المحامي أوس الطائي عضو مجلس نقابة المحامين العراقيين: انتشرت في المجتمع العراقي ظاهرة خطيرة ألا وهي الربا التي تعد من الجرائم الاقتصادية وإن هذه الظاهرة ازدادت في الآونة الأخيرة بسبب عدم وجود نظام مصرفي قادر على تلبية احتياجات المواطنين، إذ نتيجة للضائقة المالية يضطر المواطن للجوء إلى المرابين بغض النظر عن الفائدة، وإن هذه الظاهرة مخالفة للدين والقانون والأعراف الاجتماعية، فوفقاً للقانون العراقي فقد نصت المادة 465 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل على: (يعاقب بالحبس وبغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين من أقرض آخر نقوداً بأية طريقة بفائدة ظاهرة أو خفية تزيد على الحد الأقصى المقرر للفوائد الممكن الاتفاق عليها قانوناً، وتكون العقوبة السجن المؤقت بما لا يزيد على عشر سنوات إذا ارتكب المقرض جريمة مماثلة للجريمة الأولى خلال ثلاث سنوات من تاريخ صيرورة الحكم الأول نهائياً).

وتابع الطائي: كما أن المشرع العراقي أصدر القرار 68 لسنة 1997 والذي جرم المراباة واعتبرها من الجرائم المخلة بالشرف، إذ نص القرار المذكور على أن يعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات كل من أقرض نقوداً بأية طريقة بفائدة ظاهرة أو خفية تزيد على الحد المقرر قانوناً وتعتبر هذه الجريمة من الجرائم المخلة بالشرف وتكون العقوبة السجن لمدة لا تزيد على عشر سنوات إذا ارتكب المقرض جريمة مماثلة خلال ثلاث سنوات من تاريخ صيرورة الحكم الأول نهائياً أو في ظروف الحرب وتحكم المحكمة بمصادرة مبلغ القرض والفائدة أو المال الذي تحول إليه وينشأ في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية صندوق يسمى صندوق الفقراء تودع فيه النسبة المئوية المخصصة للصندوق من المال المصادر بموجب أحكام هذا القرار وتوزع بين المستحقين وفقاً لتعليمات يصدرها وزير العمل والشؤون الاجتماعية، إن الربا تسبب بالكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وأدى إلى الكثير من حالات الطلاق والانتحار.


كبائر الذنوب

وحتى يكون الموضوع مكتملاً من الجوانب كلها، عرجت على الباحث الإسلامي السيد عقيل الموسوي، الذي أغنى الموضوع من وجهة نظر الدين، إذ قال: بسم الله الرحمن الرحيم ((يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) آل عمران 130، قد يتصور البعض من المكلفين أن الذنوب والمعاصي لها ارتباط بأمرين فقط، الأول: أن يكون الذنب عقائدياً كالشرك بالله تعالى أو إنكار المعاد وغيره من إنكار الضرورات في الدين، والثاني: أن يكون الذنب مرتبطاً بسلوك الإنسان أما مع نفسه أو محيطه الأسري والاجتماعي كالسرقة أو الزنا أو العدوان على الغير وظلمهم، لكن الغريب هو أن تكون معاملة من المعاملات الاقتصادية تشكل في جوهرها ومظهرها ذنباً بل من كبائر الذنوب وهذا لعله لم تعهده أذهان البعض، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تناولت موضوع الربا مما في قوله تعالى ((يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)) البقرة  (276)، وقوله تعالى ((يا أيها الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مؤمِنِينَ)) (278).



نار جهنم

وتابع (السيد عقيل): أما الروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام.

فالتشديد فيها واضح على محاربة هذا النوع من المعاملات التي تؤدي إلى تخريب البناء الاجتماعي، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله: من أكل الربا ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ما أكل، وإن كسب منه مالاً لم يقبل الله شيئاً من عمله، ولم يزل في لعنة الله و ملائكته ما دام معه قيراط)) البحار ج100 ص120.

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ((درهم ربا أعظم عند الله من ثلاثين زنية كلها بذات محرم مثل خالته وعمته)) البحار ج100 ص116.

وهذا أمر في غاية التهويل والتضخيم لهذه الجريمة وهذا المعنى يشير إلى نقطة جوهرية أن الاسلام جاء لبناء حياة الإنسان على كل المستويات، فعلى المستوى الشخصي وضع ضوابط التهذيب الأخلاقي، وعلى المستوى الاجتماعي حث على التعامل العادل المنصف الخالي من الظلم وعلى المستوى الاقتصادي لا يسمح الدين بتخريب وتهديم الوضع الاقتصادي للمجتمع والأمة ويعتبر فاعل ذلك عن طريق الربا أو غيره من المعاملات المحرمة مرتكباً لجريمة يأذن معها بحرب من الله ورسوله ((فَإِن لمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ منَ اللَه وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ))البقرة (279)، وهذا لعله يجدد نظرتنا للدين فالذنوب ليست فقط ترك الصلاة وإن كان هذا من الكبائر وليس فقط ترك صيام شهر رمضان، وهو أيضاً من الكبائر وليس فقط الزنا وإن كان من أشد الكبائر، بل يمتد النهي والتحريم والوعد والوعيد إلى تخريب النظام الاقتصادي للمجتمع وهذا أيضاً من الكبائر، وهذه نظرة الإسلام المتكاملة لحياة البشر.


دراسة الفائدة

 وبعد هذه الجولة مع الاقتصاديين ورجال القانون والدين، نرى أن على الجهات المختصة أن تتصل بهذه المكاتب من خلال الأرقام التي تضعها في إعلاناتها وتلقي القبض عليهم، فلا يمكن أن نجامل على حساب الحقيقة، وأن تكثف من حملاتها الإعلامية في كشف زيف وغش هؤلاء الذين يمتهنون الكذب والتسليب المنظم، فضلاً عن مراقبة عمل المصارف الحكومية والأهلية ومكاتب الصيرفة لضمان عدم خرق القانون، كما أن الحكومة يجب أن تتبع الطرق المصرفية الحديثة والبعيدة عن التعامل الربوي، لا سيما دراسة الفائدة التي تستحصلها المصارف من المواطنين، وتشجيع تشغيل أموال المواطنين في المشاريع المربحة بعيداً عن (الربا العلني)، الذي تمارسه هذه المكاتب التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي، وإلا فإن المجتمع بخطر بوجود المرابين.