ثنائيَّة الإرسال والتلقّي في الإبداع الأدبي

ثقافة 2023/04/11
...

 ريسان الخزعلي


(1)

هل ثمّة فواصل ثقافيَّة بين الإرسال والتلقّي في الإبداع الأدبي؟

إنَّ الذي يُبرر توضيح هكذا استفهام، هو ما يتردد من تساؤل جوهري - في أكثر من موقف ثقافي - يطرحه الكثير من المتلقّين للأعمال الإبداعيَّة، الأدبيَّة والفنيَّة: هل أنَّ المبدع فرد في مجتمع أو أنَّه فرد من مجتمع؟ 

إنَّ تساؤلاً بهذه السعة لا بدَّ أن تكون غايته الاستفهاميَّة الفصل بين التفاعل والتفرّج.

وهنا لا بدَّ من التوضيح، إنَّ طرفي المعادلة في الأعمال الإبداعيَّة: الإرسال والتلقّي، غالباً ما يبدوان في موقفين متقاطعين.

المتلقي يطمح إلى تسلّم سريع واضح يُثير المتعة الآنيَّة، مبرراً موقفه باستفهام صادم: لماذا الإبداع؟ في حين أنَّ المبدع في موقف آخر مغاير، موقف تشكّل بفعل مؤثرات عدّة، منها: التجربة، الموهبة، الثقافة، الرؤية المغايرة، الرؤيا العالية، التفاعل مع تحولات المدارس الفنيَّة والجماليَّة وكشوفات النظريَّات النقديَّة والمناهج التحليليَّة..الخ. 

وبفعل هذه المؤثرات، فإنَّ المبدع يُغاير استفهام المتلقي (لماذا الإبداع؟) باستفهام آخر: ما هو الإبداع؟ ومن هذين الاستفهامين، قد يبدو للوهلة الأولى، أن كلّا من المبدع والمتلقي في موقف حقّاني، غير أنَّ الالتباس الخفي يبقى قائماً في طبيعة الإجابات المحتملة لكل منهما. 

وهنا لا بدَّ من وقفة تقييميّة محايدة تأخذ بعين الاعتبار مديات التباين الثقافيَّة، فالمبدع يجد نفسه غير مسؤول بصورة مباشرة عن الأميّة الإبجدية أو الثقافية لدى المتلقي الذي يشكو من صعوبة التلقّي، وليس باستطاعته (أي المبدع) أن يُقدّم تسليات جاهزة. 

ولكي يخرج التوصيف من الإطلاق والتعميم، وعلى افتراض أن المتلقي الآخر يمتلك مقوّمات ثقافية تؤهله لاستقبال الإبداع، إلّا أنَّ الذي يحصل، هو أنَّ البعض من هذا الآخر- كما نتحسسه باستمرار – يُبدي ملاحظات تُشير إلى غموض وصعوبة في تلقّي العمل الإبداعي، ولا يقوى على تسلّمه جزءاً أو كلّاً.

وهنا يتحتم على المبدع أن يلتفت كثيراً إلى تاريخ الإبداع ويتمعن في المنجز المتحقق الذي حقق توصيلاً وقبولاً، حيث أنَّ التجارب الإبداعيَّة المتنوعة والمدارس الفنيَّة والجماليَّة، سبق أن أوصلت إلى المتلقي الكثير من الأعمال رغم اختلافها في الشكل والتشكيل والمفهوم والبناء والرؤيا: الواقعيَّة بأنواعها، الرمزيَّة، الصوريَّة، السرياليَّة، التكعيبيَّة.. الخ. 

وبذلك يكون التعليل جازماً، من أنَّ المبدع عندما يكون بتماسٍ عالٍ مع التجربة الحياتيَّة الشاملة – سطحها وعمقها – النابضة بالهم الإنساني، ويعي التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والنفسيّة التي تحصل في المجتمع، ويتفاعل معها فنيّاً بعيداً عن التجريد والوهم والغموض المفتعل، فإنَّ المتلقي سيستقبل إبداعه بالوضوح الذي يتمناه، رغم الرمزيّة والصوريّة والسرياليّة والتكعيبيّة وغيرها من الممكنات الفنية الشاغلة، وعندئذٍ ستتراجع حدّة السؤال الأزلي، هل الإبداع من أجل الإبداع أم من أجل المجتمع؟ عندما تتوازى ثقافة المتلقي – بقدرٍ أو آخر- مع ثقافة المبدع، وتجنّباً للإطلاق والتعميم، لا بدَّ من التأكيد، بأن وجود متلقٍ يتوافر على ثقافة قد تفوق ثقافة المبدع حاصلٌ بالفعل.


(2)

إذن، باستطاعتنا القول، أنَّ ثمة خيطاً ليس خفيّاً يربط بين هواجس الاثنين، ألا وهو خيط  جدوى الإبداع الحقيقي، الذي من عُقده (لماذا؟، عمَّ؟، لمن؟، كيف؟) يكتب المبدع، وبالتأكيد أنَّ الإجابات المحتملة لا تفترض التسطيح والتبسيط المكشوفين، وإنما تفترض الهدف الإبداعي الذي يسمو بالإنسان من أجل عالم أرقى وأنقى وأبقى. 

وعندما يجد المتلقي، أنَّ شيئاً من هذا قد تفاعل في ذات المبدع وأظهره متماسكاً وقادراً على كسب الرهان، رهان الإبداع والتوصيل، عندئذٍ قد نتوافر على فكّ بعض الالتباسات التوليديّة والذوقيّة والتذوقيّة ولو بحدود تتجاوز النسبيّة.

يقول (أ . آ. رتشاردز) في كتابه (مبادئ النقد الأدبي): إنَّ مسألة التوصيل كغيرها من المسائل التي تنوطها الألغاز الزائفة سواء في الآراء الساذجة عنها أو الآراء القائمة على التفكير الطويل، فمن ناحية نجد أولئك الذين يعرّفون التوصيل بأنه النقل الفعلي للتجارب بالمعنى الدقيق للفظة نقل، على نحو ما يُنقل (البَنس) من جيب إلى جيبٍ آخر، ويؤدي بهم هذا الاعتقاد إلى افتراضات غاية في الإغراب والبطلان. 

إنَّ التوصيل باعتباره عملية نقل كامل أو مشاركة تامة في التجربة نفسه أمر لا يحدث.


(3)

في موضوع الإرسال والتلقّي بعد هذه الإشارات الخاطفة، قد يصح القول، بأنَّ طمرَ الرأس في رمال التبريرات، لن يُجدي الاثنين نفعاً، لأنّنا بحاجة إلى تحقيق المعادلة التي يكون فيها الإبداع زائداً التوصيل يساوي الفعل والتأثير والنجاح.