{في ظلال المدن}

ثقافة 2023/04/11
...

   تقديم: جمال حيدر


لمناسبة إصداره كتاب {في ظلال المدن} المنضوي ضمن أدب الرحلات، والصادر عن دار لازورد، خصَّ الكاتب جريدة {الصباح} بهذه الإضاءة:

أفترش المدن التي أزورها، أتسكع في دروبها وحاراتها، تدفعني رغبة محمومة بولوج أبوابها المغلقة، والبوح بأسرارها.. سائراً صوب الأواصر التي توشج شكلها المرئي وجوهرها المخفي.

 كثيرة هي المدن التي رسمتُ لها صوراً جاهزة قبل لقائها، غير أن الغوص في معالمها يشتت أبعاد تلك الصورة ويمنحها ألواناً أخرى، إذ ثمة مسافة تفصل بين المعرفة القصية وتلك المرئية عن كثب. 

 مُدُني حقيقية أبحث فيها عما لا يراه سواي، وسرعان ما تغزل الأيام حكاياتنا المشتركة على منوال الألفة. لمُدني عبق خاص يدلني عليها ويمكث في مخيلتي، إنه عبق الناس المستفيض عبر الأزمنة.. عبق يتسرب في مشاهد وروائح وأصوات وذاكرة. 

 كثيرة هي المدن التي زرتها وغدت صنواً لتكويني الوجداني الذي غمرني بعاطفة من العسير أن تنضب، حاضنة رؤى ومواقف حميمة وذكريات ثرية تزداد نضارة مع تقادم الأعوام.

 المدينة التي نحب هي التي نستطيع فيها تحقيق ذواتنا، لذا أحاول فك طلاسم كل مدينة، أعانقها وأحتويها ثم أنحتها في ذاكرتي. 

ولكن أين يكمن سر ارتباطنا بالمكان، هل يكمن في الذكريات أم في الأحداث.. أم بالاثنين معاً؟

 غالباً ما أتساءل في سري: لماذا أحب هذه المدينة وأنفر من غيرها؟

 بين المدن والناس علاقة مؤثرة. فهي لا تستمد هويتها من شكلها الظاهري فحسب، وإنما من ناسها. فالمدينة تكتسب جماليتها من سلوك ساكنيها وقيمهم قبل أن تكتسبها من أشكالها المرئية. إنها مستودع ذكريات الناس التي مرت على عجل.. وتلك التي تعاود 

المجيء.

 المدن بمعالمها وناسها وجغرافيتها وتاريخها أثرت قطعاً في تكويني وتركت جزءاً من روحها، مهما كان يسيراً، في ذاتي، كما أنها بلورت وعيي وزادته خبرة ورسخت معرفته، لهذا سرعان ما تتشكل علاقة مودة بيننا. 

كثيرة هي المدن التي أعلنتُ عشقي لها وارتباطي بها.. أنا المنفي عن مكانه الأول، والبعيد عن مدينته حتى قبل أن تتشكل الملامح الأولى لوعيه الفكري والثقافي. لذا كنت أبحث عن ظلال مدينتي بين المدن التي 

زرتها. 

 للمدن مفردات معنية بها، مفردات تحمل رموزاً وإشارات تشي بقيمتها الإنسانية والتاريخية وتقاطعها مع الحاضر. وما من مدينة دون دلالات تحمل ذاتها وتعكس نسقها، والمدن من دون تلك الدلائل هي عمياء، لا ترى ما يجري في جوفها. 

ورغم أن المدن بعثرتني في كل الجهات، غير أن لي في سماء كل مدينة نجمة تدلني على دروبها، باعتبارها البوصلة التي تشير صوب جهة العشق.. عشق المدن وروائحها المميزة، إذ أن لكل مدينة رائحة خاصة، تباينها عن غيرها.

 أقطن مدناً وأهجر أخرى، إلا أن اللهفة هي ذاتها حين ألتقيها ثانية، سر خفي يشدني إليها، سر مختزن بين طيات الذاكرة، يتأجج مع كل لقاء.

 أينما سافرت أقارن معالم المدن بمدينتي، ألتبسها بالمدن الجديدة، إنه وهم المخيلة، أو وهم الذاكرة، أو كأنه اعتذار من مكان غادرته بخوف وعلى عجل، وضعت أشيائي في حقيبتي، لكن ملاعب طفولتي وذكريات صباي ووجوه أهلي وأصدقائي ما زالت هناك. 

فالمتسلل خلسة لا يودع عادة الأشياء الجميلة القريبة من روحه، بل يظل مقيداً فيها حتى مماته.

 منحتني الأسفار فرصة التفرّس في وجوه المارة، والبحث في سعادة لا توصف عن جوهر الأماكن الخفية، والتقصي بكثب عن الاختلافات بين البشر. ولعل النظرة الأولى للمدينة.. أي مدينة، مهمة للغاية، إنها ستحدد طبيعة علاقتك بها تالياً. 

ولا بد من الاعتراف بأني لا أطيق المدن المنغلقة، ولا تلك المتباهية، واحاول اكتشاف المكان بعيداً عن واجهاته المكررة 

والمعروفة. 

 الاختلافات الشخصية بين المسافرين على الصعيد النفسي والثقافي يخلق بالمقابل مدناً متباينة. المدينة التي تكتشفها، يراها الآخر بعقلية وذهنية مغايرتين. وهنا، تحديداً، تتمايز المدن وتتباعد في عيون 

المسافرين.

 اخترت ثماني عشرة مدينة، تلك التي تركت أثراً شاخصاً في علاقتي بالمكان. 

توسعت قليلا في مادة بغداد باعتبارها مكاني الأول، كذلك في مادة لندن باعتبارها مكاني الثاني الذي تشكلت فيه الكثير من ملامح شخصيتي.

 المكان الأول لا يزال هو الأجمل، رغم أني غادرته منذ زمن بعيد. طفولتي لم تخرج منه بعد، فحين عدت إليه بعد مساحة زمنية طويلة.. طويلة، كأني عدت إلى أعوام طفولتي التي يشدني الحنين إليها. 

في حين يمثل المكان الثاني مساحة الوعي التي تمتد بين طيات العمر المتبقي.

 ثمة مسافة زمنية ليست بالقصيرة بين رحلاتي المدونة والمغلفة بسمات الدهشة والاكتشاف والبحث والرؤية المغايرة، جمعتها معاً تحت عنوان اكتشاف الذات عبر اكتشاف المدن. فكل سفر يحمل بين طياته جديداً.. ومن لا يسافر يضمر ويموت. بعض تفاصيل تلك الرحلات نشرت في صحف ومجلات عربية، بينما حرصت أن يظل البعض الاخر بكراً خاصاً بالكتاب.