نقابة الفنانين تستحضر مسيرة محسن فرحان

ثقافة 2023/04/12
...

 بغداد: سامر المشعل ونورا خالد

 تصوير: نهاد العزاوي

في أمسية رمضانية فنية استذكرت نقابة الفنانين العراقيين على حدائقها يوم السبت الماضي الملحن الكبير محسن فرحان، بمشاركة نخبة من نجوم الطرب العراقي، الذين قدموا أغنيات من ألحان الراحل، لاقت استحسان وتفاعل الحضور الكبير الذي ضاق به المكان، قدم الأمسية الإعلامي حيدر النعيمي، وتحدث فيها الناقد الموسيقي سامر المشعل الذي بدأ حديثه بالقول "نستذكر ونستحضر اليوم الفنان الملحن محسن فرحان رمزا من رموز الثقافة الموسيقية العراقية.

نستذكره بزهو واعتزاز وبفخر، كونه شخصية استثنائية بعطائها، طبع بصمته الإبداعية بحروف مضيئة في خارطة النغم العراقي، وغدت أغنياته رفيقة جلساتنا التي تأخذنا من عالمنا المضطرب والكئيب إلى شلالات الضوء وانتشاء الروح بالبهجة والحب الذي نفتقده، نحتفي بفنان رحل عنا، وظلت أغنياته فينا وعالقة بالضمير الإنساني".

استمع الحضور إلى أغانٍ أداها مطربون من مختلف الاجيال منهم حميد منصور، محمد السامر، أمل خضير، كريم حسين، عدنان بريسم، عبد فلك وعمر هادي اخذت الحضور إلى زمن الفن الاصيل .

استمتع الحضور بباقة منوعة من الاغاني، التي لحنها فرحان ومنها: ( ياهوى الهاب، شكول عليك، ايكولون غني بفرح، ما بيه عوفن هلي، أنت العزيز تغيرت، لو غيمة دنياي.. وغيرها).

وبهذه المناسبة ارتأت صفحة موسيقى أن تتصفح مع قرّائها جوانب من الصفحات المشرقة في تجربة فرحان بالحياة والفن وفك شفرة أسراره، التي جعلته مبدعا متفردا.


ولادة الموهبة

ولد فرحان في مدينة الكوت العام 1947 ثم انتقلت العائلة بعد اشهر قليلة إلى محافظة كربلاء.. تلقى تعليمه الاول على يد أستاذه لطيف رؤوف المعملجي، والذي يصفه فرحان (أنه استاذي وأبي الروحي) الذي اكتشف موهبته، وانطلقت هذه الموهبة من محافظة كربلاء، تعلم خلال فترة قصيرة العزف على آلة العود، والاوركديون، والايقاع، وخلال ثلاثة اشهر فقط، ما انعكس على اغاني فرحان التي نجدها نابضة متحركة بالايقاع والاغنية تحتوي بالإضافة إلى الانتقالات النغمية، ايضا الانتقالات بالإيقاع ببراعة وخفة ورشاقة، ويمنح الأغنية النبض الايقاعي المناسب، الذي يثري الصورة التعبيرية لجو الاغنية.

وبعد أن تيقن من موهبته، بدأت رحلة البحث عن الذات، أخذ يسافر من كربلاء إلى بغداد.

بغداد كانت بمثابة المدرج الذي ينطلق منه النجوم إلى عالم الاضواء والشهرة، حيث الاذاعة والتلفزيون وليالي بغداد الساحرة.. ثم انتقل واستقر في بغداد.. درس في معهد الفنون الجميلة، ولم يمضِ على مكوثه بالمعهد سنة، حتى تم الغاء قبوله بدواعٍ أنه مستوفٍ والأفضل أن يفسح المجال لغيره من الطلاب. 

لكن فضوله المعرفي في تحصيل الدراسة الاكاديمية لم ينفك يلح عليه، فدرس في معهد الموسيقى العربية في مصر.. لكن اهم شهادتين حصل عليهما فرحان في حياته أنه نقش اسمه بحروف من ذهب مع عمالقة الابداع العراقي، مثل عباس جميل وكمال السيد، وطالب القره غولي ومحمد جواد أموري وآخرين.. والشهادة الاخرى التي لا تقلُّ اهمية عن الاولى محبة واحترام الناس والوسط الفني، والدليل الجمهور الكبير، الذي حضر اليوم لاستذكار الفنان الراحل محسن فرحان.


الحزن الكربلائي

عاش محسن فرحان في كربلاء، وطبيعي الإنسان ابن بيئته يتأثر بها، وتشبعت روحه بطقوس العزاء الحسيني، واختزلت ذاكرته بالردّات الحسينية ومواكب الحزن، وبأصوات الروادويد الشجية والايقاعات المستخدمة بالمواكب، هذه الاجواء اثرت في روحية وذائقة فرحان.. لذلك نجد في ألحانه أصواتا حسينية خافتة ونفسا حسينيا موظفًا بطريقة ابداعية يشع هذا الحزن بالجمال ومناغاة الروح، مثل اغنية غريبة الروح، والبارحة.. وهنا تتجلى عقلية محسن فرحان الموسيقية بأن ينفذ إلى مدارات الروح العراقية، المثقلة بالحزن ويلامس الوجع بشفافية موسيقاه والحانه، ليحررنا من الحزن القابع فينا، بخطاب موسيقي جمالي يرتفع إلى مناخات انسانية بالتعبير عن الوجدان وعاطفة الحب بكل نقاء وشفافية".


أنقذ سعدون جابر

بعد أن انطلقت شهرة سعدون جابر مع كوكب حمزة ولحن له (ياطيور الطايرة، الكنطرة بعيدة، هوى الناس)، اذ كانت (الطيور الطايرة) البوابة الأوسع التي انطلق معها سعدون جابر نحو النجومية، وكانت اغنية كبيرة ومتكاملة كلاما ولحنا وموسيقى، ثم اضطر كوكب حمزة مغادرة العراق، بسبب الضغوطات السياسية. 

فقيل إن سعدون جابر انتهى، جاء محسن فرحان وانقذه وقدم له مجموعة من الالحان، التي جعلته يتواصل في مسيرته الابداعية مثل (عيني عيني، البارحة، يا نجوى، لا تصدك اليحجون، دمعة وكحل، أنت العزيز تغيرت.. وغيرها ). 

استطاع سعدون من خلال هذه الاغاني أن يرتقي سلم الشهرة عراقيا وعربيا، ويتبوأ مكانة في عقد السبعينيات إلى عقد التسعينيات من القرن الماضي كسفير للاغنية العراقية في العالم العربي".


عدم التكرار

بعض الملحنين عندما تسمع أغانيهم تعرف مباشرة لمن تعود هذه الاغنية كأغاني طالب القره غولي ومحمد جواد اموري.. اذ تعرّف المتابعين على روحيتهم بالتلحين، مع محسن فرحان تغيب هذه الحالة ويتساءل المشعل، لماذا؟

ثم يجيب "أغاني محسن فرحان لا تشبه بعضها، فهو لم يكرر نفسه، كل اغنية حالة استحضار معينة، ولادة جديدة، فهو يضع اللحن على مقاسات المطرب ويستنطق مكامن الجمال بصوته، بأغنية "كوم انثر الهيل"، نجد حسين نعمة ينزل درجات واطئة من القرار بـ "دمعة سهيل" لأن صوت حسين نعمة قرار، بينما يضع لحنا لقحطان العطار وهو صوت جواب نراه يرتفع لمناطق عالية في اغنية "زمان" فيصرخ قحطان "زمان" ، فمحسن فرحان يصور المعنى بالنص الغنائي مثلا في اغنية "البارحة" كان الصوت يأتينا من طيف أمس، ويرسم لنا صورة حلمية، يسرح معها خيالنا بحالة تأمل تتواشج مع النص والموسيقى، وصوت المطرب الذي يضفي عليها جمالا آخر، فتجربة فرحان فيها تنوع حتى تشظت روحيته مع كل اغنية، اذ نرى أغنية "أعبر عن جفوني بحلم" تختلف عن اغنية "اه يا زماني" أو " يا طير الحمام.. وهكذا".


ترنيمة العراقيين

"يامسيت العافية عليكم يا اهلنه - شمايجي منكم خبر تزيد المحنه" جملة استلها محسن فرحان من أفواه إحدى العجائز، عندما كان يمر بإحدى الحارات الشعبية، اذ كانت النسوة يجلسن امام البيوت، فسمع محسن فرحان هذه الجملة، وكانت تنطلق بعفوية مشبعة بالحنان، فاستوقفته هذه الجملة، وطلب من الشاعر زامل سعيد فتاح أن يعمل نصًّا غنائيا، يتضمن هذه الجملة. 

وما أن لحنها محسن فرحان حتى أصبحت "يامسيت العافية عليكم ياهلنا" ترنيمة العراقيين التي يتبادلها الأحبة في رسائلهم و"مسجاتهم" مشبعة بالحب والحنين.

 فخرجت هذه الاغنية من فم الازقة والحارات لتعانق أعلى حالات العاطفة الانسانية.. وبذلك اقترب فرحان في هذه الحالة من الموسيقار سيد درويش الذي كان يتجول في حارات وأزقة مصر، فيستمع اغاني المزارعين والصنايعجية، فيأخذ هذه الاغاني ويحولها إلى ألحان يستمع اليها عموم المستمعين في مصر والعالم العربي مثل "طلعت يا محلى نورها"، " البت قامت تعجن بالفجرية" وغيرها حتى لقب سيد درويش بفنان الشعب.


اعتراف بليغ حمدي

من أسرار بليغ حمدي مع محسن فرحان أغنية "أريدك"، التي لحنها محسن فرحان إلى سعدون جابر وهي من كلمات كريم العراقي، لكن سعدون جابر لم يغنها، وكان مرتبطا آنذاك بمشروع مع بليغ حمدي أن يلحن له شريطا كاملا. 

في جلسة بالكويت بشركة النظائر الكويتية، عرف بليغ حمدي أن محسن فرحان ملحن أغنية "أريدك" فطلب أن يسمعها ثم أعاد سماعها مرة أخرى بعدها قال بليغ: لم أستطع أن أتجاوز محسن فرحان في هذه الاغنية، باعتراف بليغ نفسه، ثم قال الشاعر فائق عبد الجليل، الذي كان حاضرا في الجلسة "لأن محسن فرحان عايش مع هذه 

الاغنية". 

وبهذا الصدد يقول محسن فرحان " إننا ممكن أن نلحن خليجي ولبناني ومصري.. لكن من الصعب أن يلحن العربي أغاني عراقية مثلنا، لأن الكلام والحس العراقي يصعبان على الملحن العربي".

 

توظيف الأطوار الريفيّة

استطاع الملحن محسن فرحان أن يوظف بعض الاطوار الريفية بالغناء العراقي بطريقة إبداعية جمالية، فقد وظف طور الساعدية وهو أحد الاطوار الريفية، التي تغنى بريف العمارة وابرز من قدم هذا الطور هو المطرب الريفي نسيم عودة، باغنية "عيني عيني"بموال اتنطرك ها تجي وها "، وكذلك في أغنية البارحة من خلال موال: "البارحة صوتك اسمعه يعتب من بعيد اسمعه.. ومنين اصيح منين.. يا صوت النخل بالريح يبجي ودمعي دمعه". 

وهناك توظيف رائع لغناء الغربية نجده في أغنية "مابيه عوفن هلي" في الموال الذي يسبق الاغنية :

 هلي وياكم يلذ العيش ويطيب

 نسائمكم تداوي الجرح ويطيب

هلي منكم تعلمت الوفه والطيب

هلي يهل المضايف والدلال.. يبه يايبه يايبه

توظيف الغناء الشعبي والريفي بالغناء المدني الذي يسمع في عموم العراق والعالم العربي، يدلُّ على تشبع الفنان محسن فرحان بالتراث الغنائي ثم تقديمه إلى العالم، كما فعل بليغ حمدي مع عبدالحليم، بتحويل الغناء بالريف الصعيدي إلى غناء مصري حديث على سبيل المثال أغنية "على حسب وداد".


الإصرار على الحياة 

لمحسن فرحان قدرة عجيبة على العطاء والاصرار على الحياة، فبعد أن بترت ساقه نتيجة لتجلط أحد الشرايين، يستكين ويجلس في البيت يندب حظه ويستسلم لحالة العوق، إنما أخذ يقيم الجلسات الفنية والمهرجانات ويحضر الأماسي والحفلات ويشارك في الندوات بحماس وتفاعل وحب، وعندما يسأل عن ذلك يقول "أحب الحياة".

عاش فرحان حياة العراقيين بما فيها من خوف وقلق وعوز وحرمان، دُعي إلى الخدمة العسكرية ثم الاحتياط العام 1983، وبدلا من أن يحمل عوده لينتج أجمل الالحان، حمل البندقية التي كان يكرهها لأنها اداة لقتل البشر.

اضطر في فترة الحصار وسط ثقل الحاجة أن يبيع عوده بمبلغ 50 الف دينار، ويفتح محل خضار بثمن العود، وهذه مشاكسة قدرية اخرى في حياة محسن فرحان يبيع الخضر!، لكنه كان منسجما مع كل الحالات التي عاشها ولا يريد أن يلغي من حياته، حتى المحطات المؤلمة لأنها تدفعه نحو الابداع والتمسك بالمحطات الجميلة.

هذه الحياة المضطربة التي عاشها انعكست على اختياراته، فنجد في اغانيه البحث عن اسئلة وجودية للضياع الذي نعيشه والانتكاسة الانسانية، التي يعيشها كل انسان عراقي حالم بالحرية والعيش الرغيد، على ارض تختزن كل كنوز الدنيا، فنرى في اغانيه ملامح هذه الغربة .. زمان يا زمان .. غريبة الروح ..يكولون غني بفرح .. يالبعيد.. 

وغيرها.