تهدَّمت والله أركانُ الهدى

استراحة 2023/04/12
...

استشهاد الإمام علي عليه السلام، هو أحد أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي، حيث كان عليه السلام الإمام الأول للشيعة والخليفة الرابع عند عامة المسلمين إضافة لكونه صهر الرسول صلی الله عليه وآله وسلم وكاتب وحيه، وقد ثبت التاريخ عشرات المواقف البطولية والمهمة لهذه الشخصية البارزة.
مؤامرة ابن ملجم

قال ابن سعد : قالوا: انتدب ثلاثة نفر من الخوارج [وهم] عبد الرحمن بن ملجم المرادي- وهو من حمير وعداده في مراد وهو حليف بني جبلة من كندة- والبرك بن عبد اللّه التميمي وعمرو بن بكير التميمي فاجتمعوا بمكّة وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلنّ هؤلاء الثلاثة: عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ويريحنّ العباد منهم فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا لكم بعليّ بن أبي طالب. وقال البرك: أنا لكم بمعاوية. وقال عمرو بن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص.

فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا وتواثقوا "على أن" لا ينكص رجل منهم عن صاحبه الذي سمّي "له" ويتوجّه إليه حتّى يقتله أو يموت دونه.

فتواعدوا بينهم ليلة سبع عشرة من شهر رمضان  ثمّ توجّه كلّ رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه.

فقدم عبد الرحمن بن ملجم الكوفة فلقي أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريد وكان يزورهم ويزورونه. فزار يوماً نفراً من تيم الرباب فرأى امرأة منهم يقال لها: قطام بنت شجنة بن عدي بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تيم الرباب- وكان عليّ قتل أباها وأخاها يوم النهروان، فأعجبته فخطبها فقالت: لا أتزوّجك حتّى تسمّي لي. فقال: لا تسأليني شيئاً إلاّ أعطيتك.

فقالت: ثلاثة آلاف وقتل عليّ بن أبي طالب. فقال: واللّه ما جاء بي إلى هذا المصر إلاّ قتل عليّ بن أبي طالب وقد آتيناك ما سألت.

ولقي عبد الرحمن بن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعي فأعلمه ما يريد ودعاه إلى أنْ يكون معه، فأجابه إلى ذلك. وبات عبد الرحمن بن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها أنْ يقتل علياً في صبيحتها، يناجي الأشعث بن قيس الكندي في مسجده، حتى كاد أنْ يطلع الفجر فقال له الأشعث: فضحك الصبح فقم، فقام عبد الرحمن بن ملجم وشبيب بن بجرة، فأخذا أسيافهما ثم جاءا حتى جلسا مقابل السدة التي يخرج منها علي.


أحداث ليلة الاستشهاد

عن الشريف الرضي رحمه الله قال: "وبإسناد مرفوع إلى الحسن بن أبي الحسن البصري" قال: سهر علي عليه السلام في الليلة التي ضرب في صبيحتها، فقال: إني مقتول لو قد أصبحت فجاء مؤذنه بالصلاة فمشى قليلاً فقالت ابنته زينب يا أمير المؤمنين مر جعدة يصلي بالناس فقال: لا مفر من الأجل، ثم خرج.

وفي حديث آخر قال: جعل عليه السلام يعاود مضجعه فلا ينام، ثم يعاود النظر في السماء، ويقول: والله ما كَذبت ولا كُذّبت، وإنها الليلة التي وعدت، فلما طلع الفجر شد إزاره وهو يقول:

أشدد حيازيمك للموت    فإن الموت لاقيكا

ولا تـجـزع مـن المـوت        وإن حــل بواديكا

وروي أنّ الإمام أمير المؤمنين لما أراد الخروج من بيته في الصبيحة التي ضرب فيها خرج إلى صحن الدار استقبلته الإوز فصحن في وجهه فجعلوا يطردوهن، فقال: دعوهن فإنّهن صوايح تتبعها نوايح، ثم خرج فأصيب. صلوات الله وسلامه عليه.

قال الحسن بن علي عليه السلام: وأتيته سحيراً فجلست إليه فقال: إني بت الليلة أوقظ أهلي فملكتني عيناي وأنا جالس فسنح لي رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللد؟ فقال لي: ادع الله عليهم. فقلت: اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم، وأبدلهم بي شراً لهم مني.


فزت ورب الكعبة

وخرج الإمام صلوات الله وسلامه عليه وصلى بالناس فبينما هو ساجد ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه بالسيف فصاح الإمام صلوات الله وسلامه عليه: فزت ورب الكعبة

فقال بعض من حضر ذلك: فرأيت بريق السيف وسمعت قائلاً يقول لله الحكم يا علي لا لك، ثم رأيت سيفاً ثانياً فضربا جميعاً، فأما سيف عبد الرحمن بن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه، وأما سيف شبيب فوقع في الطاق، وسمعت علياً يقول: لا يفوتنكم الرجل. وشد الناس عليهما من كل جانب، فأما شبيب فأفلت، وأخذ عبد الرحمن بن ملجم فأدخل على علي فقال: أطيبوا طعامه وألينوا فراشه، فإن أعش فأنا أولى بدمه عفواً أو قصاصاً، وإن أمت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين.

وأما شبيب بن بجرة، فإنّه خرج هارباً فأخذه رجل فصرعه وجلس على صدره، وأخذ السيف من يده ليقتله، فرأى الناس يقصدون نحوه، فخشي أن يعجلوا عليه فوثب عن صدره وخلاه، وطرح السيف عن يده ففاته، فخرج هارباً حتى دخل منزله، فدخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره، فقال له: ما هذا؟ لعلك قتلت أمير المؤمنين! فأراد أن يقول: لا، فقال: نعم، فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه ثم دخل عليه فضربه حتى قتله.


حمل الإمام إلى داره

لما ضرب أمير المؤمنين عليه السلام احتمل فأدخل داره فقعدت لبابة عند رأسه وجلست أم كلثوم عند رجليه ففتح عينيه فنظر إليهما فقال: الرفيق الأعلى خير مستقراً وأحسن مقيلاً.

وأخذ ابن ملجم فأدخل على علي، فقال أطيبوا طعامه، وألينوا فراشه، فإن أعش فأنا ولي دمي، عفو أو قصاص، وإن مت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين.

وقال ابن الاثير: أًدخل ابن ملجم على أمير المؤمنين عليه السلام، وهو مكتوف فقال: أي عدو الله ألم أحسن إليك، قال: بلى قال عليه السلام. فما حَملَك على هذا؟ قال ابن ملجم: شحذته أربعين صباحاَ "يقصد بذلك سيفه"، وسألت الله أنْ يقتل به شر خلقه، قال علي عليه السلام: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا من شر خلق الله، ثم قال عليه السلام: النفس بالنفس إنْ هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإنْ بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين ألا لا يُقتلن إلا قاتلي، انظر يا حسن إذا أنا متّ من ضربتي هذه، فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثـلن بالرجل، فإنّي سـمعت رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور.

وفي كتاب الخرائج قال عمرو بن الحمق: دخلت على علي عليه السلام، حين ضرب الضربة بالكوفة، فقلت: ليس عليك بأس إنّما هو خدش، قال: لعمري إنّي لمفارقكم، ثم أغمي عليه، فبكت أم كلثوم، فلما أفاق قال عليه السلام: لا تؤذيني يا أم كلثوم، فإنّك لو ترين ما أرى، إنّ الملائكة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض والنبيين يقولون انطلق يا علي فما أمامك خير لك مما أنت فيه.

لقد بقي الإمام علي عليه السلام يعاني من ضربة المجرم الأثيم ابن ملجم، ثلاثة أيام، عهد خلالها بالإمامة إلى ابنه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وطوال تلك الأيام الثلاثة كان عليه السلام يلهج بذكر الله، والرضا بقضائه، والتسليم لأمره، كما كان يُصدر الوصية تلو الوصية، داعياً إلى إقامة حدود الله عزوجل، محذراً من اتباع الهوى والتراجع عن حمل الرسالة الإسلامية.


اشتراك بني أمية في قتل الإمام

لم تكن مؤامرة قتل الإمام صلوات الله وسلامه عليه مقتصرة على الخوارج فحسب بل أن بني أمية كان لهم الأثر الفاعل في التخطيط والتمويل والتأسيس لهذه الحادثة الرزية التي أصيب بها الإسلام واستفاد منها أهل النفاق والكفر، وعلى هذه المشاركة الأموية في قتل الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه توجد شواهد عديدة منها:

أولاً: اتفقت الروايات على أنّ ابن ملجم من بني مراد، وكان عداده في كندة، أي تسجيل نفوسه ومسؤوليته الحقوقية والجنائية في كندة ورئيسها الأشعث بن قيس.

وأنّ ابن ملجم دخل الكوفة قبل شهر من اغتياله لأمير المؤمنين عليه السلام ونزل ضيفاً عند الأشعث! واتفقت الروايات على أنّ الأشعث كان رجل معاوية الأول في العراق، وأنّه عمل بكل قدرته لإنجاح مؤامرة ابن ملجم في قتل أمير المؤمنين عليه السلام وأشرك عدداً من رجاله فيها، فهل يعقل ألا يكون معاوية وراءها أو في مجراها ؟ قال أبي الفرج الأصفهاني: "وللأشعث بن قيس في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار يطول شرحها...". 

وقال البلاذري: وبعث الأشعث ابنه قيس بن الأشعث صبيحة ضرب علي فقال: أيْ بنيَّ انظر كيف أصبح الرجل وكيف تره؟ فذهب فنظر إليه ثم رجع فقال: رأيت عينيه داخلتين في رأسه، فقال الأشعث: عينيْ دميغ ورب الكعبة. 

ولم يهنأ الأشعث بقتل أمير المؤمنين عليه السلام، فقد هلك بعده بأيّام يسيرة، تاركاً فرخيه جعدة ومحمد بن الأشعث، ليواصلا تآمر أبيهما على العترة النبوية، ويشتركا في قتل الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام.

ثانياً: إنَّ أبا الأسود الدؤلي صاحب أمير المؤمنين ألقى تبعة مقتل الإمام علي بني أمية، وذلك في مقطوعته التي رثى بها الإمام والتي جاء فيها:


ألا أبلغ معاويـة بـن حـرب    فلا قرت عيون الشامتـينا

أفي شهر الصلاة فجعـتمونا    بخير الناس طرا أجمعينا

قتلتم خير من ركب المطايا    ورحلها ومن ركب السـفينا


ومعنى هذه الأبيات أنّ معاوية هو الذي فجع المسلمين بقتل الإمام الذي هو خير الناس، فهو مسؤول عن إراقة دمه، ومن الطبيعي أنّ أبا الأسود لم ينسب هذه الجريمة لمعاوية إلا بعد التأكد منها، فقد كان الرجل متحرجا أشد التحرج فيما يقول.

ثالثاً: افتخار بعض الأمويين عندما أدخلوا السبايا في مجلس يزيد بن معاوية لعنه الله بقوله:


نحن قتلنا عليا وبني علي    بسيوف هنـدية ورماح

وسبينا نساءهـم سبي ترك    ونطحناهم فأي نطاح

فهو أوضح دليلٍ على أنّ للأمويين يداً طولى في قتل سيد الوصيين صلوات الله وسلامه عليه.


أشقى الأولين والآخرين

هناك أخبارٌ كثيرة أنبأت باستشهاد الإمام علي عليه السلام قبل استشهاده. ومنها ما جاء في الخطبة الشعبانية. فقد روي أنّ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم بعد أن تحدّث عن شهر رمضان وشرفه وثواب الطاعة فيه بكى.

قال له أمير المؤمنين: يا رسول الله ما يبكيك؟

قال: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك ضربة على مفرق رأسك، ويشقه نصفين ويخضّب لحيتك من دم رأسك.

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟

فقال صلی الله عليه وآله وسلم: في سلامة دينك؛ ثم قال صلی الله عليه وآله وسلم: يا علي من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن سبّك فقد سبّني، لأنّك مني كنفسي، وروحك من روحي وطينتك من طينتي، وإنّ الله عز وجل خلقني وإياك واصطفاني وإياك، واختارني للنبوة واختارك للإمامة، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي، يا علي أنت وصيي وأبو ولدي وزوج ابنتي وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي، أمرك أمري، ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية انك لحجة الله على خلقه وأمينه على سره وخليفته على عباده.


إخفاء قبره

أخفى أهل البيت سلام الله عليهم قبر أمير المؤمنين طوال عهد الدولة الأموية خوفاً أنْ تنتهك حرمته من قبل أعدائه الذين استمرّوا يسبّونه على المنابر ثمانين عاماً ومعهم الخوارج وإنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يخشى أنْ يقدم هؤلاء على نبش قبره فتثور بني هاشم لذلك فيتسنى للأمويين عذر في استئصالهم فهم كانوا يلتمسون الذرائع لقتلهم لذلك أخذ أهل البيت عليهم السلام يتعاهدون على إخفاء قبره عن العامة، عملاً بما أوصى به جدهم أمير المؤمنين عليه السلام.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام أمر ابنه الحسن أنْ يحفر له أربعة قبور في أربعة مواقع، في المسجد وفي الغري وفي دار جعدة بي هبيرة المخزومي وفي الرحبة، وإنما أراد بهذا ألا يعلم أحد من أعدائه موضع قبره.

أما إظهار القبر للعامة من المسلمين فكان في أيام داود العباسي المتوفي سنة 133 هـ حيث أصلحه وعمل عليه صندوقاً وسكن بعض العلوية النجف حتى القرن الرابع الهجري، وإذ بالنجف من السادة العلوية ألف وثلاثمئة، عدا غيرهم من الموالين.