قصة الطفل والتودّد إلى المسرود له

ثقافة 2023/04/12
...

د. نادية هناوي 



يؤدي (المسرود له) في قصص الأطفال دوراً إيجابياً فيبدو مقتنعاً بما تؤديه الشخصيات، تاركاً السارد يوزع الأدوار بينها ويمارس هيمنته عليها، ماسكاً عقدة الحبك بيديه. هذا إذا كان السارد موضوعياً، أما إذا كان ذاتياً فإنَّ الأمر لن يختلف، إذ سيظل السارد بطلاً يشارك في السرد وفي الآن نفسه يفرض هيمنته على غيره من المسرودات والمسرود له معاً. ولن يعترض هذا الاخير على الحبكة، بل هو مساهم في إتمامها محققاً ما سمته كارول تيسي (الإسناد الأخلاقي) الذي به ينتقل خط السرد من صورته اللا واقعيَّة إلى صورة واقعيَّة مقبولة. وإذا كان هذا الدور الإيجابي للمسرود له هو الأكثر شيوعاً في السرد غير الواقعي من ناحية قلة تدخله في المحكي وعدم توانيه عن التسليم للسارد، فإنَّ ذلك قد نجده أيضاً في السرد الواقعي وفيه لا يكون (المسرود له سوى صنو السارد الذي يشاهد نفسه يعيش مثل الآخر زمن الكتابة) وقد لا يستطيع المسرود له أن يؤدي دوره الإيجابي في السرد غير الواقعي من دون تدخل السارد مبرراً ما في السرد من أوهام المحاكاة. والهدف إشعار المسرود له بصدقيَّة هذا السرد كي يقتنع ولا يتشكك، فتتلاشى الأوهام، ولا تعود هناك مسافة فاصلة بين الواقع والمتخيل فتتماسك الحبكة مشتملة على المخاتلة التي يقتضيها السرد الواقعي في الأصل. 

وعادةً ما يعاضد المسرود له السارد ويتجاوب معه وهو يخرق المعتاد لغوياً فلا يكون هناك فاصل بين الذات والموضوع، واضعاً الزمان والمكان والأوصاف كلها في خدمته. وبما يؤهل المسرود له لأداء دوره الإيجابي الذي به يتحقق التوازن البدئي والوسطي والنهائي فتكتمل واقعيَّة الحبكة تصعيداً وتعقيداً وانفراجاً. وكأن ليس للممكن أن يكون ممكناً إلا بأن يمر في الاستحالة، وهو ما يقتضي التوفيق بين الممكن والمستحيل. ولا مكان لمثل هذا التوفيق سوى في الأدب وبخاصة قصص الأطفال. مما نجده في قصة (ملكة الشمس) للكاتب جاسم محمد صالح. وتدور أحداثها في إحدى جزر اليابان وأبطالها أب وأم وإخوة: الأب ايراناجي رجل طيب والأم ايزانامي امرأة طيبة (كانا يبدوان في أكثر الأحيان غير سعيدين فهما يتألمان كثيراً حينما يريان المياه راكدة لا تتحرّك والبرد القارص مسيطر على كل شيء في الأرض) فتضرّعا إلى الربّ أن يرزقهما أطفالاً، فرُزقا بأربعة؛ ثلاثة أبناء وطفلة واحدة ثم ينقلب فعل السرد بظهور الإخوة كملوك خرافيين؛ فالأخ الأكبر تسوكي هو ملك الضياء، والأخ الأوسط كوجي ملك الدفء، والأخ سوزانو ملك الحركة، واماتراسو ملكة الشمس إضاءة وجمالاً، والأخ الأصغر هو ملك الريح الذي كان شريراً يُلحق الأذى بالآخرين. وتتعقد الحبكة حين يرسل الأخ الأصغر أخته ملكة الشمس إلى أعماق الأرض فتقرر هي أن توقف أخاها سوزانو بأن تحتجب غاضبة وقد استسلمت لنوم عميق. وبالمفارقة تارة والمصادفة الصادمة تارة أخرى تنفرج الحبكة وقد تحول غير الممكن إلى ممكن وغدت القصة واقعيَّة. فالسارد حكاء والمسرود له سامع يحاول مواجهة اللاواقع وجهاً لوجه ومن دون أدنى إحساس بأنَّ ما يجري من أحداث مستحيلة هو حلم أو كابوس، بل بالعكس هو يتقبل الأفعال المستحيلة محولاً إياها إلى أفعال ممكنة ومتوقعة على مستوى اللغة. 

وليس للمسرود له هنا سوى الانسجام مع السارد الحكاء الذي بدوره يتودد إليه وهو يمسك عقدة الحبك ناقلاً الحوارات المرويَّة أو مستبطناً دواخل الشخصيات. وتنتهي القصة وقد نظر الجميع إلى ملك الريح نظرة احتقار بسبب أفعاله التي كانت تؤذي الناس وخصوصاً الأطفال. ولا يعني التودد إلى المسرود له أنَّ السارد غير موجود أو أنَّ المسرود غير مهم، بل هما حاضران لكن في حدود بنائيَّة. وهذه الحدود مفتوحة بسبب المسرود له الذي كلما كان اهتمامه بما يجري من خرق سردي معتاداً دلَّ على أنه مقتنع بما يجري بإيجابيَّة تامة (سنقيم احتفالاً كبيراً على سفح الجبل ورقصوا وغنوا فاستيقظت ملكة الشمس وبدا ضوؤها يخرج من فتحة الكهف ورفضت توسلاتهم بالخروج) وقد استعان الكاتب بالرسوم لتوضيح الأحداث المحكيَّة وتقريبها إلى ذهن الطفل. ولا غرابة في أن نجد هذا التعاكس في التحول من اللاواقعيَّة إلى الواقعيَّة مستعملاً لا في قصص الأطفال حسب، بل هو مستعمل أيضاً في روايات الخيال العلمي بكل ما فيها من خروقات غير معقولة.

وقد تنفع النظرة التاريخيَّة الشاملة في دراسة سرديَّة قصص الأطفال في معرفة مميزات ومعايير أسلوبيَّة أخرى تساعد في تمييز خصائصها. ويظل وصف هذه القصص بأدب الأطفال موضع خلاف؛ أولاً لأنها كتابة غير محددة الإطار ولا متبلورة السمات وثانياً لصعوبة وصف ما فيها من علاقات بين الكبار والصغار، بل أنَّ بعض الباحثين لا يقرون بوجود إنتاج أدبي يسمى أدب الأطفال. وتذهب باربرا وول إلى (أنَّ أدب الأطفال ككيان أدبي مميز يمكن تحديده فقط عندما يطور الكاتب أساليب محددة لمخاطبة القراء من الأطفال.. فأدب الأطفال يعزز ويساعد في رسم ملامح صورة الطفل الذي يخاطبه) وفسر بعض النقاد قصص الأطفال من قبيل الكتابة النسائيَّة التي هدفها تخفيف اللغة التي يصنعها الذكور وتجعل للقارئ الطفل منظوراً يمكن دراسته وبما يفتح المجال أمام بعض النقاشات الفلسفيَّة والأخلاقيَّة المثيرة للاهتمام داخل نطاق النصوص الأدبيَّة وخارجها أيضاً.