التوظيف الكتابي لعلم النفس في {كيانات منسية}

ثقافة 2023/04/12
...

رابعة الختام



تقتحم الشاعرة والكاتبة المصرية فردوس عبد الرحمن صناديق كيانات شخصيات أبطال أعمال بعض الروائيين والمبدعين  في كتابها “كيانات منسية، سر الإبداع”.

إلى جانب بعض الكيانات القديمة المنسية لدى الإنسان العادي، تشارك القارئ في الأمر وكأنما تتحدث إليه وتحادثه، تتساءل مرارا حتى يظن القارئ أنها توجه إليه السؤال، تشاركه الأحداث بعفوية،  تغوص خلف الظلال السفلية لعالم الروح. 

فردوس عبد الرحمن، كبير مذيعين بإذاعة البرنامج  الثقافي بالإذاعة  المصرية، وتقدم برنامج (على ضفاف الحياة) المعني بالتحليل النفسي. 


ترسخ حالة كتابية فريدة، بالبحث خلف عوالم العقل الخفي والبحث في الذات البشرية، وما تبوح به مكنوناتها النفسية لتعد مؤشرا ناجزا لشرح فلسفية الحدث.

كتاباتها أشبه ببئر عميقة، عوالم ساحرة قد يختار القارئ الغوص فيها راغبا وربما مرغما، فهي تلتهمك بكلمات بسيطة وعميقة في آن واحد، حتى تجد نفسك أسيرا لما تكتب.  

من أجواء الكتابة:  يجب أن نقرأ حياتنا ببطء أكثر ونعيد قراءتها مرات ومرات، كم هو قاس ألا نرى سوى ما نفكر ونشعر به، كم هو مجدب ألا نبدع أنفسنا ونركبها من تلك الكيانات المضيعة.

كيف يعيش المرء مترهلا هكذا بقناعاته أنه واحد أحد، بينما جوفه يجأر بأصوات آخرين، وقدماه تمشي بهلع والتياع، مجدولة بأرجل قديمة.

تفتقر المكتبات العربية لهذه النوعية من الكتابات المعتمدة على الغوص في ما وراء الكتابة النقدية المباشرة، وتحليل الشخصيات، تتخطاه للتحليل النفسي، ليست كتابة في النقد الروائي ولا تشغلها عتبات النص والبناء الأدبي واللغوي بعيدا عن ماهية مكنون الشخصيات، خاصة التي قد نراها ثانوية ويراها الكاتب من أهم علامات الترميز الهادف.

 حاولت “عبد الرحمن” ببساطة تفكيك الأساطير الموازية للسياقات النفسية، تلك التي نعيشها في عوالمنا الخاصة، وفق نظريات علم النفس والفلسفات، مستعينة بآراء كتاب أوائل في هذا الشأن أمثال “يونج” (كارل غوستاف يونج، عالم النفس السويسري، مؤسس علم التحليل النفسي).

 وتفكيك الرموز القبلية التي تسكن لا وعي الإنسان المعاصر، عالم الأساطير والحيوات السابقة التي كانت تعيش قبلنا، والحقيقة أننا نعيش فيها. 

تناولت بالنقد والتحليل مجموعة من الرموز والكيانات المنسية في مجموعة الكاتب والناقد سيد الوكيل “لمح البصر” وهي سردية مغموسة في التمني عن الأحلام التي تخيلها الكاتب، أو عن رؤاه الحقيقية التي أمسك بتلابيبها في كتابه حتى لا تنفلت منه. 

  استنادا إلى نظرية “يونج” في المحتويات النفسية المكبوتة، وهي التي تشرح وتفسر جملة الخيالات العاطفية وما يتم الاحتفاظ به، ويطبع أثره القوي في النفس البشرية.

غريزة البحث عن الإله الخالق للكون بتشكيلاته ونظمه الهندسية، هذا التفكير النابع من فطرة إيمانية سوية.

سلطت الضوء على بعض مشاعر الإنسان البدائي الأول وانطباعاته عن الليل، والغروب والشروق، ورؤية الشمس، ما يعطي الشعور بالانقباض، وما يثير في النفس بعض الهواجس المحفورة في الذات، من عودة الموتى وبعض الحيوانات والأفاعي التي تزوره في الأحلام وتشكل اللاوعي.

مراحل تطور وعي الإنسان مرورا بأطوار النفس البشرية “الطور البارانوي” الشك والتوجس، السلالة القططية للكر والفر والهجوم، والشيزيدي أو طور السلحفاة، الرغبة في التخفي والهروب من الناس، ويحدث في فترة المراهقة، ثم الطور الإلهي، إرجاع كل شيء للخالق، تدلل عليه بما حدث مع الأنبياء يونس وموسى وإبراهيم. علاقة شرطية بين الشعور والحدث.     

الكتاب صدر عن دار روافد للطبع والنشر، ظلمته كورونا في الحق في المناقشات والندوات، وما تلاها من أحداث، والظرف الاستثنائي الذي فرضته العزلة المجتمعية. 

يقول الناقد والأديب سيد الوكيل عن العمل: (عمل ممتاز وجديد بكل المعاني، فالكاتبة تلتقط شخصيات مكتوبة في روايات وقصص، وتختبرها في آفاق معرفية متنوعة من علم النفس، والأنثربولوجي، والأساطير، والفلسفة، بل وفي ممارسات الحياة اليومية، ووقائعها، في مقاربة مع النقد الثقافي نتيجة لانفتاح الرؤية المعرفية، تجري عبد الرحمن تجاربها الثقافية الفارقة بتشريح طبيب.)

محاولة مختلفة لتفجير التاريخ السري لشخصيات الأعمال الأدبية، وربما يكون هو نفسه التاريخ السري للكاتب، فاختيارنا لموضوعات أو شخصيات نكتبها ليس لعبا أو مصادفة، بل درجة من تماهي الذات الساردة فيها، وهذا ما يضمن للعمل الأدبي صدقه الموضوعي وعمقه الإنساني.

كتابة مجدولة بالشغف والدهشة،  قد يجد القارئ ذاته وسط الحكي، أو أحد أقاربه ومعارفه فيصبح جزءا من النص ويعيد إنتاجه وفق حكايته هو.

تؤكد عبد الرحمن : لم أقصد النقد الأدبي وليس كتابي معنيا به، لكنها محاولة لرؤية كياناتنا المنسية، التي تتسلل خفية إلى كتاباتنا، تختلس مساحة كبيرة من النصوص، لتواجهنا بما نجهل عن أنفسنا، وفي الحقيقة هي خلاصة مشاهدات ومعايشات في أزمنة سحيقة.

وربما لم يكن الكاتب نفسه يقصد ما وراء الشخصيات وخلفياتها وترميزها عند الكتابة، إنما هي التي اخترقته واقتحمت ذاته الأدبية.

وعن الأحلام تقول: وظيفة الحلم أهم من تفسيره، فالإنسان لا يستطيع العيش داخل وعي أحادي، هو وعيه الظاهر، وعي الحياة اليومية، إنه ينام كي يدخل لمناطق وطبقات أخرى من وعيه، تتناثر فيها أجزاؤه ثم تتحد، تتبعثر فيها أزمنته وأمكنته، ثم تتداخل مع بعضها البعض. فالإنسان أكبر وأكثر من نفسه التي يعرفها، وإن لم يدرك ذلك، تهش عظامه، ويشيخ عقله سريعا.

الحلم هو الباب الملكي لإدراك كينونته. وتتساءل؛ من يوقفني على أرض الطفولة سوى الحلم، ومن يعيدني إلى الوعي الطفولي الأول سواه؟.

جاء الكتاب في ثمانية فصول يتحدث أولها عن الكيانات المنسية الأولى، وثانيها الأعمال الإبداعية، ويناقش الفصل الثالث مجموعة الأديب المصري سيد الوكيل “لمح البصر” عن مجموعة الأحلام، أو الكتابة الحلمية، وهذا الفصل تحديدا هو أهم فصول الكتاب والدافع الحقيقي وراءه.

وفصل سنوات القتل...أنا لا أخاف، عن رواية الكاتب الإيطالي نيكولو امانيتي، ثم أنت قلت، للروائية الهولندية كوني بالمن، نهايات سعيدة مشفوعة بسيرة الحارس الليلي للأوتيل “رجائي موسى”، وقبل الخاتمة تقف عند المستوى الخفي، لتشرح شخصيات الكاتب محمد حامد السلاموني.  

الكتاب يقع في 150 صفحة من القطع المتوسط، صدر للكاتبة ديوان شعر بعنوان “هنا مقعد فقط”، قدم متسخ، وكتاب أنا العزيز خطيئة التصورات وكتاب العقل الخفي”.