محمد عناني .. واحة الإبداع التي أثمرت

ثقافة 2023/04/12
...

مروان خليفة



في الثالث من يناير الماضي (2023م) رحل عن عالمنا المترجم القدير الدكتور «مُحمد عناني»، رحل شيخ المترجمين والرحالة المسافر بين الثقافات، رحل من أفنى 84 عامًا في رحاب الأوراق والمعاجم والشعر والنقد والكتابة.

لم يكن محمد عناني فقط أحد المترجمين العرب المشهورين، أو الكُتَّاب والنُّقَّاد الأفذاذ أصحاب المنهج، أو الشاعر مرهف الحِس، بل كان مشروعًا ثقافيًا مُتكاملًا، قائمًا بذاته، يتحرك بخطى حثيثة منذ يومه الأول في عالم الأدب، في سبيل وضع أُسس وقواعد وشريعة ذاتية يقوم عليها قلمه، ومُشيرًا ومُعبرًا عن صرح كان بحق جديرًا بهذه المسيرة وهذا المسار.


وُلد محمد عناني في محافظة البحيرة في أوائل عام 1939م، وحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية وتدرج حتى أصبح رئيسًا لذات القسم بين عامي 1993م و1999م، بالإضافة إلى حصوله على الماجستير والدكتوراه من خارج مصر.

محمد عناني امتلك كل أدوات الإبداع

امتلك الدكتور محمد عناني كل أدوات الإبداع منذ شبابه، فنبوغه في دراسة اللغة الإنجليزية، ومن ثَم النقل عنها، جعله أكثر التصاقًا بلغته العربية وليس العكس، فنمى لديه الحِس النقدي، وأثمر ذلك ترجمة عربية لكلاسيكيات إنجليزية ذات طابع خاص؛ مع إنتاج أدبي زاخر كذلك الذي خرج بين دفتي كتاب «واحات العمر» الذي سجل فيه فصلًا من حياته، وتبعها بـ «واحات الغُربة» ثم «واحات مصرية».

شرب عناني من الثقافة المصرية وارتوى، بداية من «رشيد» مسقط رأسه، ومرورًا بالقاهرة، التي رآها كحلم كبير يصعب تصديقه، وكتب فيها شعرًا بعد أن تجول واندهش من اتساعها، يقول:

تضيق بي الخضراء إن شرد اللبُّ – وتنبذني البيداء إن وجَبَ القلبُ

تركتُ رشيد الصفو والحب والصبا – وكيف يعيش المرء إن فاته الحبُّ

هناءٌ رفيقٌ يغمر النفس باسمًا – شعاع بعين الكون باركه الربُّ

عناني؛ ذلك الشاعر مُرهف الحِس، متذوق الموسيقى، ابن القرية الخضراء، هكذا هي حاله، متذوقًا لكل جميل، مُبدعًا بما تقتضيه لحظة الإبداع، ومتفاعلًا مع عالمه الجديد مدينة الصخب والأضواء القاهرة.

وجدها جديرة بالمحاولة فجابه كل دواعي الكسل والخمول، فانطلق إلى ما انتهى إليه من مجد وحضور لافت منذ أول يوم فيها، وحتى آخر ساعة صعدت فيها روحه.

محمد عناني ناقدًا مسرحيًا

إن الحِس النقدي الذي يتمتع به عناني، والذي جعله مميزًا عن بقية أبناء جيله لم يُولد صدفة أو من جراء احتكاكه بالثقافات الأجنبية وروائع الأدب الكلاسيكي، وإنما هو نابع من تعايش تام مع ثقافته العربية، فقد بدأ عناني كناقد مسرحي له مقام، بالإضافة إلى كونه كاتبا مسرحيا من طراز فريد إذ كتب مسرحيات «المجاذيب» و«الغربال» و«السجين والسجان».

وفي حوار أجراه مع صحيفة القاهرة عام 1989م، وضع عناني يده على مشكلة المسرح العربي تحديدًا وحددها بقوله: «المسرح العربي بكل أسف، بدأت الريادة تنتقل فيه إلى خارج مصر، فالمسرح العربي في مصر لم يعد رائدًا له دور تاريخي كما كان سابقًا، والقضية حاليًا ليست قضية نص .. القضية في المسرح العربي قضية تنظيم وإدارة». 

وباعتباره أحد الفاعلين في المشهد الأدبي في الوطن العربي لأكثر من نصف قرن، تنبأ عناني منذ سنين بتفوق المسرح الكويتي، إذ قال في نفس الحوار: «المسرح الكويتي فعلًا من أنشط المسارح الموجودة في العالم العربي، ففي كل عام حينما نعقد مهرجان المسرح العربي في أكاديمية الفنون، نجد نموذجًا مُشرِّفًا للمسرح الكويتي». 

كما كانت للدكتور محمد عناني نظرة مغايرة لمسرح الكاتب الكبير «يوسف إدريس»؛ إذ رأى في مسرحه تجسيدًا لما أسماه «دراما الرجل العادي»، وعاب على النُّقاد عدم فطنتهم لهدف مسرح يوسف إدريس، يقول عناني: «وقد أغفل النُّقاد في ما أغفلوا أن هدف يوسف إدريس كان من البداية إضفاء البطولة المسرحية على الإنسان العادي الذي تجاهله كُتَّاب الدراما الكلاسيكية قرونًا، ولم يكن يظهر إلا في الكوميديا». 

وهنا تبرز النظرة النقدية غير التقليدية لمحمد عناني، فقد اكتشف سر استمرارية مسرح يوسف إدريس، بل سر تعلق الناس بأدبه على مدى أكثر من ثلاثين عامًا، «وذلك لانشغاله بعدد من القضايا الإنسانية الأساسية التي تنبع من حياة الشعب المصري».

أغنيات الخريف .. ختامٌ يليق بفنان

في حديث تلفزيوني مع الإعلامية الدكتورة فاطمة فؤاد قال الدكتور محمد عناني إنه يتمنى أن يسمح له الزمن بالتفرغ للكتابة الإبداعية، إذ بدا مُنزعجًا من أن الوقت تستهلكه الوظيفة الجامعية وما تُحتمه عليه من القراءة الأكاديمية الكثيرة والمكثفة وكذلك الإشراف على الرسائل العلمية.

اتسم ذلك الحوار بالشاعرية؛ فقد تعرَّف المتابعون وقتها على محمد عناني عازف العود، مُتذوق الموسيقى، المواظب على حضور جلسات الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب في منزله، باعتباره أحد أهم من سماهم ممن أثَّروا في مسيرته.

يأتي ديوان «أغنيات الخريف» وكأنه الختام الذي يجب أن يكون لمثل هذه المسيرة وحياة مُفعمة بالمشاعر والتجليات والأحاسيس، وكأن عناني يقول لنا إنه في الأصل شاعر ومُبدع لا مُترجم، وإن تفوق وأبدع في ترجماته ودراساته النقدية.

يقول تحت عنوان «دموع ميلاد» :

 جاء الحياةَ على قدَرْ  ...    فبكى بدمعٍ منهمرْ

ما إن رأى الأضواء حتَّـ  ...  ـى سال سيَّال الدُّرَرْ

قد كان يرجو أن يظـ ...

 ـلَّ بجوف كهفٍ مُستقرْ

لكنَّما دفءٌ دعا ... 

هُ فكان أمرًا ذا خطرْ

يقول النُّقاد إن المُبدع يبدأ مسيرته بالحديث عن نفسه، ويختمها كذلك بما يُريد أن يقول عنها، وعناني هنا يأخذنا إلى لحظة الميلاد؛ واصفًا ما يختلج الإنسان في تلك اللحظة، بداية بالبكاء وختامًا به، يقول:

  هل جئتَ للدُّنيا لتبـ    ...   كِي ما أرادَ لك القدَرْ

   إنَّ البكاء بدايةُ الـ    ...     مــيلاد في دُنيا البشرْ

ويقول عناني مودعًا تحت عنوان «وداع»: 

فاذكري شاعرًا يرُوم المَراقي ... 

في جمالِ الأرواح عند اللقاءِ

طالبًا في السماء رزقًا جديدًا ...

 وانتصارًا على ثَرى الغبراءِ

واعلَمي أنَّما سمُوِّي إلى الجَنَّـ ...

 ـةِ وحيٌ من الرُّبَى الخضراءِ

في عيونٍ هي السماء انفِساحًا ...

 وفراديس سندسٍ وبهاءِ

واعلمي أن رافعي للعَنانِ ... 

وحيُ قلب يعيش حلمَ الرِّفاءِ

كان هذا آخر ما سطَّر قلم عناني، كنجم لامع في سماء الإبداع العربي، شاعرًا وفنانًا وموسيقيا ومُترجمًا وناقدًا وكاتبًا مسرحيًا.