محمد طهمازي
المبهم يحتاج في العادة إلى تفسير أو تفاسير للوصول به لمنطقة المعنى لكن في حالة الفن يختلف الأمر تماما حيث أن الفن ينطلق من منطقة المعنى بصيغ وصور جماليَّة متعددة الوجوه والبنى التكوينيَّة التي تأخذ بيدك لداخلها أي لداخل مناطق المعنى لتتذوّق أصناف المعاني بلغة مفعمة بالقيم الجماليَّة تتراوح في الأساليب والمراحل بين الكلاسيكي والمتحرر.
إنَّ التعاطي مع الأعمال الفنيَّة باعتبارها نتاجات مبهمة تحتاج للتفاسير والشروح أمر يعبر بشكل صارخ عن حالة من الجهل العميق بأبسط مفاهيم الفن والعمل الفني.. وأنا هنا أتحدث حتى الآن عن تفاسير وشروح الأعمال الفنية ولا أتكلم عن منطقة النقد والتحليل الفني والفلسفي كونها لا تتعامل مع شرح أو تفسير لمعنى العمل الفني، بل مع رؤى الفنان والفلسفات الجماليَّة والفكريَّة التي ينتمي إليها أو يعمل بها والحالة النفسيَّة التي تؤثر في وعي الفنان وحتى لاوعيه وتتحكم من ثم بالمعمار التشكيلي والتركيب الجمالي للعمل الفني.
لو أننا ركنّا لوضع تفسير لكل عمل فني فنحن بهذه العملية نحصر منتج الفنان في زاوية ميتة من المعنى في مدى رؤيتنا المحدّدة في لون واحد ووعي واحد وذائقة واحدة وهي لا تختلف فقط مع رؤية الفنان ووعيه إنما في عدم فهمنا لحقيقة مهمة جدًا هي أن رؤية الفنان ووعيه في منتجه الفني غير محدودة في قالب فكري ولا تعبيري ولا حتى جمالي محدّد إذ إن من أهم صفات العمل الفني الإبداعي أن يكون مفتوحًا على جهات متعدّدة قد تصل حتى إلى التناقض فيما بينها وهذا من أهم مصادر قوة العمل الفني وأهم عناصر خلوده! لذلك تكون عملية إيجاد تفسير بعينه للعمل الفني هي في الحقيقة عملية قتل!
لكن كيف نفهم العمل الفني من دون تفاسير له؟ سيسأل سائل.. ونحن سنرد بسؤال يحوي الجواب: هل أن فهم العمل الفني يعتمد على تفسير العمل الفني؟
نحن جميعًا فُطرنا على الاستجابة لذبذبات العمل الفني، ولكن يعوزنا دائمًا أن نتدرّب على الكيفيّة.. إنَّ فهم العمل الفني يستند إلى الخبرات البصريَّة التي هي ذاتها، أو بالأحرى العميق منها، العنصر الأهم في إنتاجه وهذه الخبرات، لدى المتلقي، تعتمد بشكل كبير على الثقافة والذائقة الفنيَّة.. ومثلما يعرّف "الإدراك البصري" بأنَّه القدرة على تلقي، وتفسير، وتحليل، المؤثرات والمحفّزات البصريَّة دماغيًا، واتخاذ القرارات بناءً على النتائج المفسّرة اعتمادًا على مهارات عدة أهمها؛ التعرّف على الأشكال، وتذكرها واستدعاؤها بترتيب نمطي معين، وتمييز التشابه والاختلاف بينها، والتعرّف على الأشكال المجزأة، أو المنفصلة، أو المموهة، أو المكتملة جزئيًّا.
يضاف لذلك القدرة على إدراك البيئة المحيطة بواسطة؛ الضوء الداخل للأعين، وتحديدا الخلايا المستقبلة للضوء (الشبكيَّة)، ليتحول إلى إشارات كهروكيميائية تنتقل إلى الدماغ عبر العصب البصري. كما أن الإدراك البصري يُشكل أساسًا مهمًا لعمليات القراءة، والكتابة، والحركة.. فإنَّ الخبرات البصريَّة هي الأخرى تتحكّم أو تحكم عملية قراءة العمل الفني بصريًّا بطرق وعمليات متشابهة بشكل أو بآخر، وهي هنا عمليّة فكريّة بصريّة تتفرّع بينها وتتشابك مع العمليات العقليّة في مراكز العاطفة والإحساس.. يجتهد المتلقي خلالها في قراءة العمل الفني بصريَّاً والإحساس بوقعه النفسي وتذوّق إيقاعاته
الجماليَّة..
إنَّ كلَّ ما يجنيه الفنان من ممارسة للعمل الفني لا يتعدى لحظات حيَّة يعيشها لنفسه، وكل ما يجنيه المتلقي المستمتع هو محاولة دائبة لإعادة أو استعادة هذه اللحظات مرة أخرى!