ملفيل شاعراً
ترجمة: كامل عويد العامري
في ما يقرب عن أحد عشر عاما، كتب هيرمان ملفيل (1819 - 1891) قصصا نثريَّة، لم تلق النجاح الكبير الذي حققته (خيمة الهندي)، ثم لمدة ثلاثين عاما، في الشعر، لكنه لاقى فشلا كاملا. بعد ثلاثة عقود من وفاته، أعاد القرن العشرون اكتشاف موبي ديك، وخصص لمؤلفه مكانة مركزيَّة في مجال الرواية، ولكن ليس المكانة التي كان يتمناها لنفسه في المجال الشعري، وعلى الرغم من جهود رجال الفن (روبرت بن وارن وألين جينسبيرغ ...) وبعض المتخصصين والناشرين (مكتبة أمريكا، على سبيل المثال، كرّست له مجلدا من القصائد الكاملة بمناسبة الذكرى المئويَّة الثانية لميلاده).
لا تزال أعمال الشاعر ملفيل غير معروفة تماما خارج الدوائر المغلقة لعدة أسباب. أولاً، كما هو الحال مع الكتاب الأمريكيين العظماء الآخرين في القرن التاسع عشر (إيمرسون، بو، ثورو)، طغت الميزة الاستثنائية لعمله النثري على عمله الشعري. ثانيًا، إن تاريخ الشعر الأمريكي في هذا القرن كان يهيمن عليه بالكامل اثنان من العباقرة العظماء، وهما: والت ويتمان وإميلي ديكنسون، اللذان لم يتوقف مظهرهما “الحديث” من حيث الموضوع والشكل عن إلهام خلفائهم أبدًا، في حين بدت اختيارات ميلفيل، من خلال الميتافيزيقيا الجادة أو تقليديتها الجماليَّة (في ما يتعلق بالعَروض، والنظم الشعري، وما إلى ذلك)، أقل جاذبيَّة، وغالبًا ما يكون شعره صعبًا ومملًا في بعض الأحيان، ذا سمات متفاوتة. لكن فليكن! إن قراءته “عن كثب” ستزود القارئ المجتهد بألف درس، وسيوفر تصفحه للأكثر كسلاً تلك الإبهارات الأدبيَّة التي كانت تسحر جينسبيرغ “افتح ملفيل من أي مكان، كما يقول، توجد قصيدة لا يوجد فيها تحول غير عادي في العبارة”.
يتيح لنا شعر ميلفيل Poésies، الذي نُشر مؤخرًا في إصدارات Unes التي ترجمها للفرنسيَّة تييري جيليبوف Thierry Gillyboeuf ، التحقق من ذلك من خلال تقديم كل شعره في 500 صفحة وفي نسخة أحادية اللغة (باستثناء Clarel). وبالطبع، فإنَّ النسخة شبه مكتملة، بسبب افتقارها إلى المرونة، تستبعد هذه القراءة العرضيَّة، غير المعلنة، والتي تسهل مجموعات الجيب والتي تبدو مثالية لمواجهة العواصف العظيمة ومواقف النصوص الملفيلية. ولكن لا بأس، إنَّ ميزة هذا العيب تتمثل في أنَّه يمكن للقارئ من ثم الاستفادة من مقدمة طويلة ومفيدة.
يجمع كتاب (الشعر) ثلاث مجموعات نُشرت خلال حياة الكاتب، هي (لوحات ومظاهر الحرب (1866)، وجون مار (1888)، وتيموليون وما إلى ذلك (1891) - وكانت المجموعة الأولى قد نشرت تجاريًا، بينما نشرت المجموعتان الأخريان على نفقة الكاتب في نحو عشرين نسخة. يتضمن كتاب (الشعر) أيضًا سلسلة غير منشورة من القصائد الرعوية التي كتبها ملفيل لزوجته، العشب البري والبرابرة، وغيرها من القصائد التي تمَّ جمعها تحت عنوان Parthenope، فضلا عن خمسين قصيدة قصيرة.
تعد مجموعة (لوحات ومظاهر الحرب) أقل المجموعات شهرة. ومع هذا، كان ملفيل، الذي تناول موضوعًا وطنيًا رئيسيًا، وهو الحرب الأهليَّة، يأمل في “التأثير” على الجمهور الذي كان يهمله. تتابع هذه المجموعة الأحداث من 1859 إلى 1866، تبدأ من شنق جون براون في “النبوءة” الشهيرة والغامضة، ثم يقدم المعارك، ويشيد بالمقاتلين (على كلا الجانبين)، ويأسف لمكينة الحرب، ويرسم أيضًا تأملا في التاريخ الحالي والمقبل. ويختتم بـ “تأمل” متفائل بحذر يتبعه “ملحق” نثري مكتوب من منظور “كاتب شمالي” قلق بشأن مستقبل الأمة ويحذر، من بين أمور أخرى، من مخاطر انتصار معسكر الاتحاد. وكان ملفيل يقول في مواجهة الكونفدرالية المهزومة، إنّه “يرفض أن يلعب بوصفه كاتبا.. دور الكلب أمام الأسد الميت”.
إنَّ الإحساس بالتعقيد والغموض المتعلقين بالأسباب يوضح النص، كما يفعل اللاوعي لدى ممثليه. في قصيدة “المسيرة في فيرجينيا” نجد صيغة جميلة وشهيرة: “كل الحروب صبيانيَّة ويخوضها الصبيان “All wars are boyish, and fought by boys “ وهو (بيت يصعب ترجمته اختار له جيلليبوف ترجمة في الفرنسية: “كل الحروب ألعاب أطفال، يشنها الأطفال “ Toutes les guerres sont jeux d’enfants, livrées par des enfants “).
أما الرب، ففي كل هذا، إذا كان موجودًا، فإنّه يلتزم الحياد التام. ويختتم “صراع المعتقدات” بطريقة مبهجة إلى حد ما (وبحروف ذات البنط العريض):
نعم و لا :
يقول لكل واحد :
لكن الرب يقف في المنتصف.
أما مجموعة (جون مار)، التي تلت (اللوحات)، فهي أكثر المجموعات المتعلقة بالبحر، لكنها تظل ذات صيغة نغميَّة كئيبة. تتضمن، في مزيج من الشعر والنثر (مثل الأعمال الشعريَّة الأخرى في كتاب الشعر Poésies)، صورًا للبحارة يمكن للقارئ أن يتعرف فيها على الشاعر، وقصائد جميلة جدًا عن الطبيعة: “القيثارة الهوائية”، و”الحصى، و”قرش جزر المالديف”...
إنَّ طيور النوء، والجبل الجليدي، والقرش، وعشب البحر، والقارب الذي ينجرف بين المياه هذه العناصر التي تستحضرها القصائد كلها في خدمة التأمل الميتافيزيقي والتي ستبدو مألوفة لقارئ الروايات: العالم خالٍ من الوعي، غير مبالٍ بمصير البشر، وأحيانًا يكون جميلًا، وغالبًا ما يكون مخيفًا، ودائمًا “لا يسبر غوره” (صفة متكررة لدى ملفيل). وهكذا فإنَّ قصيدة “قرش جزر المالديف” هي في الوقت نفسه “شحوب أبله” و “عجوز بائس بليد” و “آكل اللحوم مرعب”. وهكذا بين الإثارة المأساوية واجترار السخرية، يصل جون مار إلى اللهجات الأخرى الصحيحة للتعبير عن الطابع “الذي لا يسبر غوره” للكون، تمامًا مثل شخصية المخلوق الإلهي الذي كان سيخلقه.
تيميليون إلخ. وبارتينوب Parthenope من المجموعات الأكثر تعقيدًا في النهج: في نظام القافية الصارم والوزن الشعري الخانق، وفي بنية إشكالية المجموعات الشعرية. لكن هناك صورة جانبية لملفيل مثيرة للاهتمام خلف الشخصيات أو أصوات القصائد. إنه تيموليون في مجموعة “تيموليون”، هو أورانيا [إلهة علم الفلك والنجوم، وصفاتها هي الكرة الأرضية والبوصلة.] في قصيدة “بعد حفلة المتعة” (قصيدة نادرة فيها المتحدث امرأة)، وهو الناسك قصيدة (حديقة مترودور “Garden of Metrodore”، والحرفي في عزلته في قصيدة “الحائك”.. الذي أسيء فهمه من قبل أقرانه، فانسحب من المجتمع، وعذبته الأسئلة الميتافيزيقية، رواقي، مكتئب، يؤمن أو لم يعد يؤمن بالمهارة، وفي “الحقيقة”. هو ليس هذا المتحمس، في القصيدة التي تحمل هذا العنوان:
لا تتراجع إذا حلَّ الليل
امشِ في الضباب نحو الكفن،
على الرغم من أنَّ النور قد تخلى عنه، فلا تجحد
أبدا ولاءه للنور. ثم، كطباق لاستكشافه الشعري للظلام البشري والألم، على عكس شغفه بالمكان والبحر، كتب ملفيل في السبعينيات من عمره مجموعة صغيرة من أربعين قصيدة، جمعت في (العشب البري والبرابرة). يتحول فيها إلى الاحتفاء بممتلكاته الريفية (ممتلكاته في آروهيد المعروفة ببيت ملفيل في بيركشايرز في ولاية ماساتشوستس) وبالحياة الزوجيَّة. هل يريد أن يقوم بدور فليمون، أو “مزارع الورد” (هذا هو عنوان الجزء الثاني من هذه المجموعة، الأول منها بعنوان “وردة أو وردتان”)؟ نعم ولا، كالعادة لدى ملفيل. قبل كل شيء، وراء هذه القصائد الرعويَّة والرثائيَّة “الرومانسيَّة” إلى حدٍّ ما، يستمر الصراع الواسع بين النظام الكوني والفوضى. وما القصيدة الرعويَّة في حنينها إلى الماضي إلّا عبارة عن واجهة ورهبة سامية ليستْ بعيدة أبدًا.لكن الهاوية تدعو دائمًا، الشاهدة الطحلبيَّة في الحديقة والهوة الواسعة. وقبل ذلك، كان الوجود هو الذي ينطلق من أجله بحارة قصيدة “جون مار” والبحار ملفيل والذين يحتفلون في واحدة من تلك المآثر المناسبة لإثارة حماسة جينسبيرغ، المعجب بجيل البيّت [«جيل بيّت» حركة أدبيَّة لمجموعة من الكُتّاب الأمريكيين والتي أثرت كتاباتهم بالثقافة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية] فيكتب:
« الحياة عاصفة: يا لها من عاصفة!»
وفي (كتاب الشعر) لملفيل، على الرغم من حالات الهدوء، ما أجمل
العواصف!